حين التحقتُ بالمدرسة الإبتدائية , لم أكن أشعر بحماس بلوغ مرحلة جديدة من عمري ولم أشأ أن يستمر هذا الوضع , كل فجرٍ تركلني أمي إن عاندتُها و أوغلتُ في نومي , تسحبني سحباً من ملابسي و تضعني أمام أبي الذي مدّ صينيته بصحن الفول و رغيفين من الخبز الأسمر وإبريق الشاي الذي يحبه أكثر من أي شيء آخر , أفتحُ نصف عيني و أغمضها أخرى , رغبة بإمساك الحلم الذي بعثرته أمي بيدها وصراخها ..
أحياناً كثيرة يصلُ عنادي لأن أستغل انشغالها بإخوتي فأركض إلى غرفتي و أغلقُها علي وأوثقُ المفتاح حتى تبقى تزبد و ترعد خارج الغرفة و تضربُ بيدها المذهّبة باب غرفتي حتى أسمعُ جنون الأساورِ بمعصمها وهي تحاول فتحهُ بالمقبض , و أنا التحفُ الصمت و نومي الذي أهربُ معه , لم يكن هذا كسلاً بل خوفٌ و ملل من انتظار القادم المجهول , حين أرى تلك الوجوه المغصوبة تكدُ من أول الصباح و أسمعُ التنهدات تطلقُ بملل مريع , أتيقنُ داخل نفسي أن هذه الحال خارج حدود الطبيعة و أن كل من حولي لايريدون الإستمرار و كأن يداً فوقها سيّرتها إلى ما لا تريد .. لكن سؤالي الذي يتكرر بعد كل مشهد روتيني كئيب " هل سيحدثُ هذا معي كل يوم حتى أستلمُ وثيقة التخرج بفرحة باهتة "
أعفي نفسي من الإجابة لأني الآن أغوص بعمق لذيذ إلى نومٍ لم يكتب له أن يستمر أبعد من مد لحافي , أبي كان يطرقُ الباب طرقاً خفيفاً و يحذرني من مغبة العناد أكثر , أخرجُ و شعر رأسي كـ مكنسة عاثت بها يدا قطٍ ثائر و في عيني بكاء مرير ..
تمشطُ لي أمي شعري بغضب و تتعمدُ سحب رأسي بقوة كعقاب على ما فعلت - وفي يقيني سأفعلها كل يوم حتى يتحرروا بحياتهم من غير إجبار أحد , أو ليتركوني بحياتي أصنعُ ما أريد - , ويجلسُ أبي أمامي يكمل صحن الفول ويقلبُ جريدة يوم أمس , ينظرُ إليّ و أتجاهلهُ و أركض بعيني نحو الأرض , يسألني بلطف " ماذا تريدين أن تكون حشوة فطيرتكِ " - وقد صفّت أمي أمامه أيضاً , علبة جبن سائل و عسل أو مربى و زبدة الفول السوداني و أحياناً طبقُ بيض مقلي - , أنظر بتململ كمن لا يريد الإجابة أبداً , و أقول : " جبن " , ثم أعاود الصمت و مضغ حزني بداخلي ..
رائحة أول قضمة لفطيرة بطعم الجبن و أنا أجلسُ أمامكم الآن تغرسني غرساً لتلك الأيام , رائحة هذا الجبن الذي كنتُ آكله كرهاً كل صباح حين أسير إلى سيارة أبي أو بالخارج و أنا أنتظرُ اكتمال بقية إخوتي , علقتْ بأنفي لأبدٍ بعيد حين لطّختُه و أنا سارحة مع تقافز الطيور حتى جاء منديل أبي يمسحُ عني منظري المضحك , لم يكن يعلم أبي حين ترك لي أنفي نظيفاً من الخارج أن هناك بقعةٌ التصقت بجدار الذاكرة و أخذت تفوح برائحتها التي لم تتغير إلى يومي هذا و أنا أودعُ أبي عند آخر الزقاق إلى الجامعة و أسمع دعاءه حاراً يبهجني ..