عاد إلى بيته عشية يوم مقيت..كانت صدمته هذه المرة، وهو يمرر نظراته باندهاش على الأحرف النارية،أشد هولا مما عايشه في سالف الأيام والليالي..ورقة خَطَّتْها رفيقة دربه من صِباه..كانت موضوعة بعناية على براز بمحاذاة كنبة بوسط الدار..كلمات وجيزة، لكنها ألهبت روحه وهزت كيانه :" عزيزي.. اغفر لي .. وداعا.. أنا لن أعود إليك..!!"..
جمد كما التمثال بلا حراك..أحس بغصة خانقة في حلقومه ..تسارعت نبضاته واضطربت أحشاؤه وكاد أن يتهاوى إلى الأرض مصعوقاً..أمسك برأسه من هول الوقيعة..تساءل في دخيلته مُنهالا على ذاته تأنيبًا : كيف يحدث ذلك بلا وعي منك ؟ أين حرصك ؟ أين حذرك ؟ أبعد طول هذه العشرة تنسل من بين يديك ؟..وعلى حين غرة ؟؟!..تبًا لكِ وسحقًا أيتها النفس اللئيمة..!!"
طفق يشق مسالك المدينة في كل مُتجه بلا هدى ..يتطلع الى الوجوه النسوية متفحصا إياها بإمعان علَّ القدر ينير بصيرته ويُيَسر مسعاه فيقوده لضالته ..من يدري؟..نظر هناك بعيدا .."ربَّاه !..إنها هي بلا أدنى شك..هي.. تماما هي.."..تبادر ذلك إلى ذهنه وهو يرمق الأجساد المتحركة من الاتجاه الخلفي..تسارعت خطواته والأمل الأخضر يبرق في مقلتيه الذابلتين..أمسك بذراعها الأيسر بخفة المتلهف ..صاح :"عائشة..عائشة.."..استدارت المرأة على عجل..قذفت في وجهه في وجوم :" احترم نفسك يا رجل..أنا لست بعائشة..قليل الأدب.."..تبرَّم آسفا مدحورا ،وغاصت هي في زحمة المكان قبل ان يقدم لها اعتذاره...
في غمرة يأس مرير، تهاوت به قدماه على قارعة الطريق..يمد كفه المرتبكة ممتعضا للعجوز الشمطاء الجاثمة تحت المظلة الشمسية، هو الفتى الذي كان ذات أيام سالفات يرى البياض بياضاً والسواد سواداً ولم تراود جمجمته المحمومة قط مثقال ذرة من عزم لالتماس المخبوء في قِراب العرَّافين..
تطلعت العجوز للكفّ الممدودة ملياً ممررة سبابتها على الأسارير المتشابكة :
- قدرك يا رجل أن تشقى بلظى النفس الأمارة بالعشق..الغارقة في دوامة أبْحُر الوجد ..والهيام..محال لها أن تنعم بالاطمئنان ..محظور عليها أن تسعد بجلال السكينة ..لا راضية ولا مَرْضِيَة..
خاطبها في ترجٍ وتلهف متسائلا :" أين هي ؟ كيف السبيل إليها ؟ قل لي بربك يا امراة ؟ "
- "حبيبة قلبك هناك.." قالت ذلك مشيرة الى وجهة الأَجْبُل العاتية للمدينة ثم تابعت :"..أجل..هناك بعيدا..فيما وراء الأسوار الشامخات.. هي اللحظة تصارع جحافل العشق الأسود و تمرح في متاهات جزر النبذ كما فراشة في حدائق التيه.."
- ماذا تعنين يا امرأة ؟!
قالت آسفة وبلا تردد :
- رفيقة دربك يا بُني..ليس لك عليها من سلطان بعد اليوم..
اهتزت نفسه ثورانا ..كال على العرافة بالشتائم في غور ذاته ثم سلّ كفه من بين براثن أناملها الخشنة ثم انصرف لوجهة غير معلومة...
هكذا كان دأبه على مدى شهور طويلة..يروح ممنيا النفس باللقيا ويغدو متبخر الآمال..يفتش أينما اتُّفق : الأضرحة والزوايا،المشافي والمارستانات،لدى الأهل والأقارب،في مراكز الأمن ومحطات النقل..في كل الأمكنة..
يعود كل مساء خاوي الوفاض كما لو أن العالم قد انسل من بين يديه كالوميض..يطوف في أرجاء البيت ..تداهمه رائحتها في كل شبر من هذا الحيز المكاني الكئيب.. تلك خزانة ملابسها لا تزال على حالها..حقائبها مركونة هناك..دفاترها..رُزَم من علب أدوية الطب النفسي على مقربة من سريرها..
كل شيء هنا يحمله على صهوة الذكرى فيراها ماثلة أمامه تداعب شعرها البرونزي اللامع .. تمدّ ذراعيها البلوريتين معانقة إياه بابتسامة رقيقة شفافة تملا كيانه حبورا وسعادة لا توصف..نظراتها الفاتنة وصوتها الرخيم يُذيب أوصاله عشقاً فينتعش وجدانه انتعاش الفراش المنتشي برحيق الورود..
غير أن الذكرى لا تلبث أن تُحِيله على الجانب النقيض من سلوكها المريض فتبدو له جاثمة على سريرها وقد خيمت عليها سحائب من صمت رهيب على مدى أيام ..تنتابها نوبات من جفاء وإعراض وضيق وانفعال..تغرق في غياهب عالمها الحالم الأوحد.. يدعوها فلا تستجيب ..يحاورها فلا ترضخ ..يستعطفها فلا تنقاد ،كما لو أن احاسيسها كُبلت تكبيلا..
وبعد أن أعيته الحيلة وخاض غمار البحث بلا جدوى عن بلسم لمصابه، انهار في نهاية المطاف مستسلما في خنوع لقدره المعتوه..
وتمر الشهور والسنون كما الشجر يرتد إلى الخلف للناظر إليه من قطار يسابق الريح،فإذا الرجل في صبيحة يوم كئيب يذرع الفيافي والأزقة والدروب..يكبو ويستقيم..يبكي ويستبكي..يجوب الأصقاع متدثرا بشملة الضياع،صارخا مستغيثا نائحا كالثكالى..يتردد اسمها على شفتيه المتورمتين بلا انقطاع..شعره الأشعث تداعب خصلاته نسائم الصباحات المقيتة ومساءات تملأ آفاقه سواداً في سواد..يلوح من محياه المكفهر بريق أمل مفقود تحت لهيب شمس لا يطاق وزمهرير ليالٍ قارسة..تطارده صيحات الاطفال والصبيان كأشباح ليل بهيم، نابزين إياه بالألقاب : وَا الْمَهْبُولْ..! وَا الْمَهْبُولْ..! وَا الْمَهْبُولْ*...!!!
-----------------
* الْمَهْبُولْ = الأحمق باللهجة المغربية