؛
؛
التِّذكَار، الفَقد، السَّلْوّ، جميعُهم تألّبُوا عليَّ تألُّبَ الرُّوى في عَينِ الضَّريرِ !
؛
؛
عندما أكونُ في مكانٍ ما، وأرى ملامحَ علامات الاستفهام في عيونهم؛ فهذا يعني رسالةً أوجّهها لنفسي: هل أنا في المكانِ الخطأ؟
حدثَ كثيراً أنْ جلستُ في مقهىً؛ وافتعلتُ الانتظارَ والارتباكَ والتّململَ مِن أنين الساعة! وحدثَ أنْ جلستُ في محطّةِ القطار وحدي، والنّاسُ من حولي ما بين مُغادرٍ وآيبٍ، ما بين مُودِّعٍ ومُستقبِلٍ، وأنا بلا وجهةٍ وبلا أحدٍ! وحدثَ –أيضاً- أنْ جلستُ مُقابلَ البحر، وتناولتُ جريدةً؛ على سبيلِ الانشغالِ بشيءٍ ما، وكانتْ صفحاتُها فارغةً، والموجُ يعبثُ بشعري وبفكري، وعيونهم تسألُ ذات السؤال: ماذا تفعلين هُنا؟
وتسقطُ عليهم الإجابةُ من سحابةٍ عابرة على هيئةِ دمعةٍ، وتنزلقُ قدماي في غَيابةِ الحَيرة! أسئلتهُم تُشبهُني، ولا تُشبهُني أجوبتي، والنّسيانُ ضروريٌ في مثل هذهِ الورطاتِ!
أُلقِّنُني -قبل الخروج من البيتِ- بالأجوبة الشّافية، أُردِّدها بسلاسةٍ؛ حتّى تنزلقَ على لساني؛ دون أنْ تتركَ غصّاتٍ خلفها! أحتاجُ لالتفاتةٍ مُباغتةٍ؛ لقياسِ مدى اقتناعهم! ومُجدّداً يُغمِضون عيونهم هُنيهةً، لا أدري أهيَ مِن تَحنانٍ أم من قسوةٍ!
و(هناك) جلستُ، و(هنا) أنتظرُ. أخبرتُهُ بأنَّ (هُنا) تحتملُ عدَّةَ تكهّناتٍ مثلَ: (كنتُ أبحثُ عنك!)، و(هنا خبّئتُ لكَ المِفتاحَ تحت شجرتنا)، و(هُنا إنْ لَمْ يملؤهُ حضوركَ؛ يتنصّلُ مِن صفته المكانيةِ إلى مجرّدِ فراغٍ!). وأخبرتُكَ بأنَّ كلَّ حدثٍ يتكرّرُ في حياةِ المرءِ يُورِثُ عندهُ التّعوّدَ؛ فـ في الأولى يكونُ مأساةً! وفي الأُخرى ملهاة!
- إذن لِمَ أنتِ في المكانِ الخطأِ مُجدّداً؟!
باغتني بالسّؤالِ قبلَ أنْ أتطلّعَ إلى وجههِ؛ لاخترعَ الأعذارَ، سأُحاولُ في المرّاتِ القادمةِ أنْ أكونَ أكثر تيقُّظاً، وأنْ التفِتَ إليهِ قبلَ أنْ يطرحَ عليَّ أسئلتَهُ التي تستنزفُ منّي الكثير!
- أتعرفُ لِمَ أنا (هنا)؟ لأنّني (هُنا) أكونُ في قَلبهِ، أحمِلهُ معي، وأنصبُهُ كخيمةِ بدويٍّ تذوبُ تحتَ قدميهِ حدودُ الخَارطةِ والبلدان، لا يعاقبهُ القانونُ، هو ودوابُّهُ في حالةِ سفرٍ دائمٍ! المقهى المجنونُ الذي صدّعتُ رأسُكَ به؛ وأنا أُعيدُ عليكَ طقوسَهُ المرجوّة عند كلِّ لقاءٍ مبتورٍ يجمعنا...
- (تقاطعُني) ما بهِ؟
- ثمّة روايةٍ هي الأُخرى مجنونةٌ؛ أدّتْ بي لاختراعهِ! كنتُ أمشي سارحةَ الخطوِ، ساهمةَ النّظراتِ، أعلمُ بأنَّ عيونهم ترقُبُني، وأنّهم يُتمتمُون بعباراتٍ مفادُها التِّيه، غير أنّكَ الوحيدُ الذي انتشلتني يدُهُ من دائرةِ الاستفهامِ المقيتةِ؛ للطّاولةِ الدائريةِ والمقهى؛ حيثُ اختفتْ من وجهي ملامحُ الوِحدةِ، واحتفظتُ بلعنةِ الغُرباء فقط! يا للمقهى الـ (هناك) كم أشتاقُ إليه وكم أحنُّ!
- كلُّ ما تقولينهُ عبارة عن دوائر متحلِّقة، لَمْ تتوقّفْ -طوال حديثنا- يدُكِ عن رسمِ الدّوائر!
- أصبتَ، وهبّتْ أصواتٌ كثيرةٌ تُبلبِلُ في رأسي، ربّما آن لي أنْ أبحثَ عن منفذٍ ينقلُني من ضيقِ الـ (هُناك) إلى فُسحةِ الـ ( هُنا).
وتُغيِّبُنا الأيامُ قسراً، لتبهُتَ الألوانُ فجأةً، الرّيحُ تسألُ، والأبوابُ تُجيبُها، والدّفءُ حزينٌ، والسّماءُ ترعدُ بالصّمتِ اللعين، ويراوغني ظلُّكَ؛ ينبجسُ من رحمِ العتمة، يلاحقني، وبذاتِ الحُنوِّ المعهودِ؛ أستحضركَ أمامَ الموقد، يلفحُني أوارهُ، ودخان الآه يتراكمُ في صدري! ثم، ماذا؟
أرنو لمكاننا، لمحرابنا، ومن خلف باب المُناجاةِ أبثُّكَ لوعتي، وخلجاتٍ مطويّةٍ منذُ اللحظةِ الأولى التي وقعتْ فيها عينايَ على مكمنِ السّرمديةِ في أعطافك. ماذا يعني ترقُّقُ الدّمع حال انثيال خيوط الذاكرة؟ ماذا يعني هذا التّخاطر المتواشج بين القلوب؟
هو ذا المشهدُ كامِلُ الحُضور،وكأنَّ كلَّ خطوةٍ كانَ مُقدرٌ لها -منذُ الأزلِ- أنْ تستردَّ عافيتها، وأنْ تستقيمَ -بعد تنافُرٍ- لترسمَ لنا دربَ اللقاء. تُفصحُ الثّواني الأولى عن مكنوناتها، ندنو من الأرض؛ لنبذرَ الكلامَ؛ فيُزهِر عن ثمرٍ دنا فتدلّى، تستريحُ الأرضُ من الدّوران، كلُّ الأشياءِ تتنهّدُ، لهنيهةٍ تهمدُ، ثم نتلقّفها براحةِ أيدينا، ونُهيِّئُها لركلةٍ جديدة خارجَ الوقتِ، ليست الأولى، ولا الأخيرة! إنّها الأثيرةُ، السّقطةُ التي تُعَاكِسُ قانونَ الجاذبيةِ، حيثُ السّقوط إلى الأعلى!.
نازك