[justify]
تطلعت إلى المرآة على مضض بمقلتين تغور فيهما مرارة حيرة لا تطاق ..رأت وجها شاحبا تدب فيه تجاعيد الزمن الصارم بعد أن تولت الايام الخوالي على حين غرة كحلم عابر..بدا شعرها أشمط تلاشى بريقه بعد أن كان ذات يوم فتنة للعاشقين.. القابعين في مرابض الوجد والهيام .ماعادت المرايا الصقيلة،بعد أن خلت منها حقائبها،تعني لها شيئا إلا استدرارا لسيل من الآهات والأنات ..بل حتى الشماتة بهذا الجسد المترهل ،المتبخرة أمجاده كأن لم تكن بالأمس..
لكن لا تلبث أن تجد نوعا من العزاء والطمأنينة لبعض الوقت وهي تقلب اشياءها وودائعها القديمة: صور،نياشين،قلادات،مجوهرات،فساتين من موديلات تبهرالأعين. يراودها حنين مثير لا يقاوم.. يطفو على وجهها وهج ابتسامة عابرة بلسما يخفف عنها وطأة السنين .
تستعيد شريط الذكرى..العيون المتلهفة القاضمة تطاردها اينما حلت وارتحلت...الخطى الحثيثة الظامئة تتعقبها في كل الأرجاء..عجبت كيف تغدو بين عشية وضحاها مثيرة للاهتمام ومبتغى لكل الرائحين والغادين..استبدت بها نوبة استغراب..خالت نفسها وقد استحالت إلى متاع يتصارع من أجله من كان لهم حظ وافر من ثراء لا يضاهى..
ومع ذلك،فقد كان ينتابها إحساس بألم ممض يغمر كيانها إلى حد كانت لعناتها تنصب على هده الطغمة الخسيسة بعد أن تناهى الى يقينها أن كل إطراء أوإعجاب أو تمجيد لم يكن في غور الافئدة إلا مطمعا في نزوات لمآرب ذاتية..
في لحظة من اللحظات،هزت رأسها، تعلق نظرها باللوحة الجدارية ..بدت فيها متربعة على عرش التتويج ملكة للعالم جمالا وحسنا..ترتدي أبهى ثيابها مطوقة جيدها بأنفس الجواهر الممتدة منها خيوط نورانية.. يشع وجهها بشاشة ونظارة ..بمحاذاتها متباريات ووصيفات يتلألأن بهاء ودلالا.. خطت بخطى وئيدة نحو شرفة البيت،بدت لها كمنصة التتويج،ألقت من أعلاها بنظرة إلى الاشجار الباسقة التي كانت تميس بفعل نسائم صبح جميل.. ترامى إلى سمعها صوت حفيف الأفنان ونشيد أطيار خالتهما ترانيم وتصفيقات أشعلت حماس جماهيرالمعجبين لحظة التكريم..غمرتها نشوة عارمة..لوحت بيديها البلوريتين ترد على التحيات في أجواء تصدح بالإعجاب فتنعش الروح ..غير انها مالبثت أن احتوتها سحابة حزن مريرعندما استفاقت من أحلام يقظتها..
تسائل نفسها بين الفينة والأخرى : ما قيمة جسد تافه آيل إلى السقوط؟..تتعقب خطاه أسياف الذبول والفناء بعد عز وسؤدد؟؟ ..بل ما قيمة جمال آنيّ للذوات إن كان حتما أن تضيق الروح وتشقى من انطفاء جذوته في المقبل من الايام والسنين؟؟
قالت أمها ذات صبيحة،بعبارات متقطعة حارقة،قبل أن يتوخاها حمام الموت لافظة أنفاسها الاخيرة :" يا بنيتي ! .. إن كان قدرك أن تشقي بلهيب ذكراك،فلا مناص من أن تلتمسي من ربك الرحمة واللطف...فما عاد بالإمكان أن تعود الحياة إلى سابق عهدها..!! ". كان ذلك آخر ماترامى إلى مسمعها من شفاه الأم الرؤوم..لكنها أصرت مجبرة على التمادي فيما هي ماضية فيه ..
وها هي ذي اليوم تعيش على أنقاض عهد عفا رسمه وانمحى أثره، تجوب كل الامكنة والدروب وتدرعها ذهابا وإيابا..تهيم في الطرقات خائرة القوى..تكبو وتستقيم..تستنجد بالفراغ..تستغيث ولا مغيث..وحينما بلغ منها اليأس مبلغه،عندئذ فقط أدركت انها لم تكن تعي شيئا سوى أنها كما الزهرة الفانية بين مثيلاتها من أزهار ذابلة تتقاذفها رياح الزمن المقيت في متاهات النبذ والنسيان...
[/justify]