قال لي يوماً صديق
قد تأكّدت أخيراً دون رَيبةْ
أن ما من شاعر يولد إلا
يوم مأساة غرام .. بعد خيبةْ وتوقفت أمام القول حيرى
أصحيحاً صار عمري اليوم عام ؟
*أحلام مستغانمي
الآن أنا أتساءل هل ولدت حقيقةً من الخيبة المتواترة في قلبي , وهل كبرتني تلك الخيبة للدرجة
التي أصبحت فيها شاعرةً دون أن أعلم ..!
***
دعنا منّي الآن .
ماذا عنك !
كيف تبدو لك الأيام في الغربة , أرسلت لي يومًا وكان قبل عامين من الخيبة ومن مأساة الحب الأول
في تاريخنا , قلت في رسالتك بأنك موجوعٌ جدًّا , الناس هناك بعيدين جدًّا عن بعضهم ,
يبدون كفقاعات الصابون ما إن تقترب من بعضها حتى تنفجر , لذلك هم يخشون الاقتراب ,
أخبرتني بأنك تعيش حالة مأساويّةً من الوحدة بأن الليل يجعلك تخرج رأسكَ من النافذة وتبكي
لتمتزج دموعك بالمطر
وعن جارتك الهندية التي ترى فيك ابنها , تقوم بطهي الطعام وإرساله إليك ,
كنت تحن كثيرًا لبيتك , ونافذتك الملاصقة لنافذتِي , وللأوراق التي نرميها لبعضنا ليلًا ,
نحاول أن نصنع لنا طقوس الحب القديم , أنا وأنت مشتركان في أننا نشعر بالانتماء إلى الستينيات ,
أسطوانات أغانينا العربية جدًا المتأصلة في عروقنا , أدبياتنا , أذواقنا التي رغم خلافاتنا الكثيرة حولها
إلا أننا نتفق في أنني أحب ماتحبه أنت طوعًا .
تعتقد أنتَ بأن أحلام مستغانمي تفسد الكثير من النساء , وتدعوهم إلى خوض تجربة حب بجميع مأساتها
وأخبرك بأن مأساة الحب رغم وجعها إلا أنها لذيذة , إن لعق الجراح الناتجة من الحب لذيذ دائمًا ,
وتضحك أنت حتى أرى الدمع يلمع في عينيك , سألتك لماذا عندما تضحك تجتمع الدموع في عينيك
أخبرتني وأنت لا تزال تضحك
: ربمّا يا حبيبتي دموع فرح , تعلمين أنتِ بأن قنوات الفرح تفتح على مصراعيها و أنا معك .
هكذا هي جملك التي تعقد في لساني الصمت فاكتفي بتأملك , وأنت تشيح بنظرك بعيدًا عني
محاولاً الهروب من سؤالٍ آخر , هكذا أنت لا تجيد سوى الهروب من أسئلتي , تخشاها كثيرًا ,
دائمًا تخبرني بأن أسئلتي تجعل تفكيرك يشيخ وهو يبحث عن إجابة , تطلب مني التخفيف منها ,
لم تكن تعلم يا زياد بأني أسألُ كثيرًا حتى أشغلك عن التفكير بغيري , عن التفكير بأي شيء
قد يسرق الثوينات الصغيرة التي أسرقها منك رغمًا عن تذمرك وانشغالك ,
كنتُ معك كطفلة تخشى أن يحين الصباح وتستيقظ . دون أن تجد أحد !
لا تلمني يا زياد إنها العقدة التي نمت بداخلي , عندما كنت أستيقظ لأجد والدَي يذهبان إلى عملهما
وأنا أبقى أدور في غرف المنزل وأصرخ حتى أنام على سجادة صلاة والدتي ,
إنها العقدة التِي خلفها بداخلي والداي الطبيبان , غيابهما الكثير والمتكرر عني جعلني أخشى كثيرًا
على نفسي من الوحدة .
كيف تنسى يا زياد بأنك وعدتني مرارًا بأن تكون الحاضر إذا ما غاب الجميع , المساند إذا ما خذلني الكثير
, بأن تمسك بيدي لنحقق أحلامنا معًا , كيف تنسى ذلك .
كنتَ أول من ابتعد عني وأنا في ذروة الحاجة إليك , تذكر يا زياد أو دعنا نعد للوراء ,
خلافك مع والديك بسببي , طردهم لك في أنصاف الليالي , فأنا الفتاة التي لا تليق ,
الفتاة التِي نامت سنوات على نافذة غرفتها , الفتاة التي رمت بعينيها وقلبها وروحها من نافذة غرفتها ,
وراهنت الحياة عليك , الفتاة التي تهرب من الحياة إلى نافذة , التي تنتظر على النافذة وتبكي عليها
وتحكي وتشكي , أنا كانت حياتي كلها معلقة على النافذة , و أنت كنت في الطرف الآخر ,
أنت كنت الحياة التي أريد الوصول إليها .
ليلتها وعندما طردت من المنزل , تسكعت كثيرًا في الشوارع , هاتفتني وأنت تلومني محاولًا إثارة شفقتي
, وأنا لم أكن أحتاج للومك , كنت أبكي وأشهق بمرارة
وأنت تردد علي : أشعر بالبرد يا حبيبتي ولم آخذ معي معطفي
كنت تقولها وأنت تبتسم بخبث لأجهش بالبكاء أكثر , لا أعلم أي لذة كنت تجدها في خوفي عليك
وحرصي الشديد الذي تسميه أنت مرضًا , أنا مريضةٌ بكَ يا زياد , حبك نصل سام يتشعبُ في أوردتي ,
حبك الحرب التِي حطمتني من الداخل , حبك رغم قسوته إلا أنني أحبه ,
ليلتها بحثت كثيرًا عن معطف بين ملابسي قد يكون بإمكانه تدفئتك , كلنا يعلم برد الرياض ,
البرد الذي أحببته بالرغم من كرهك له , لم أجد سوى معطف والدي , نزلت سريعا وأنا أتعثرُ مرارًا ,
أخاف أن يطول انتظارك بضع دقائق على بابنا فتذهب ككل مرة , وأجن أنا بالبحث عنك لإيجادك ,
كنت أنا من يبحث عنك بعد كل غياب لك , فتحت لك الباب لأناولك المعطف ,
شددت يدك على المعطف بطريقة غريبة ومفاجئة , لم أتخيل يومًا بأني سأراك بهذا الضعف وهذا الانهزام ,
كنت كطفلٍ صغير وأنت تبكي , وأنا كمن صبّ فوق رأسها ماءً ساخنا , رغم برودة الشتاء ,
كانت حرارة دموعك كالماء المغلي , لم أستطع الحراك , توقفت عن الكلام وعن التنفس وربما أيضا
تباطأ نبضي , ابتعدت أنت بهدوء ودون أن تأخذ المعطف ,
خرجت و أغلقت الباب خلفك , تركتني بدهشتي الكبيرة يا زياد , بخليط المشاعر الثائرة بداخلي ,
راقبتك وأنت تخرج وتغلق الباب خلفك , أردت إعطاؤك المعطف أردت مناداتك ,
كنتُ كمن شلت أطرافه , لم أستطع أن أفعل شيء , استغرق الأمر مني جهدًا كي أتحرك من مكاني ,
وأدلف إلى المنزل دون أن تغمض عيناي , أو تتحرك شفاهي ,
شعرت بغصة البكاء عندما سمعت صوت هاتفي يتبعه تنبيه لوصول رسالة .
" أنتِ معطفي , وسكني , ومأواي
كوني لي "
لم أعرفك وقتها يا زياد , لأول مرة منذ عرفتك ظهرت أمامي بهذا الضعف , كنت دائمًا تصف الرجل
الذي يبكي أمام امرأة بأنه مهزوزٌ من الداخل , وأن الرجل الحقيقي يجب أن يكون قويًا من الداخل ,
فالمظاهر تخدشها المواقف , لذلك على الرجل أن يبقى رغم الظروف وإن استعسرت قويا .
فأين هي قوتك يا زياد , أين جبروتك , أنت من كنت تُبكيني قبل قليل , وتضحك على بكائي ,
وتصرخ بي " كوني قوية يا بنت , يجب على أم أولادي أن تكون قوية "
لطالما ناديتني بـ أم أولادي , تشعرني دائمًا بأنني لكْ , و أشعر كثيرًا بأني منك ,
لدرجة أشك فيها بأنه يمكن للفتاة أن تُنجب من قلب حبيبها , أنا لم تنجبني والدتي ,
أنا أنجبني قلبك , أنا لم يربيني والدي , رباني حبك , أنت من كنت يرافقني إلى مدرستي ,
ومن يصطحبني منها , من يحضر لي أدواتي المدرسية , من يذاكر لي دروسي ,
أنت كنت الكبير الذي رباني , والصديق الذي استمع إلي , والحبيب الذي آواني ,
أنت منحتني الحياة في قالبِ حبّ , أنت من احتفل بأعياد ميلادي , و أنت من اختار لي اسمي ,
كيف لم يخافا والداي علي منك , كنت كبيرًا بالنسبة لي , العشر سنين تصنع فارقًا كبيرًا بيننا ,
لكنك كنت كالأخ أكثر من كونك الحبيب .
كنتُ معك في أوقات حاجتك , في الأوقات العصيبة التي مررت بهَا ,
اأتذكر الفترة التي سجنت فيها , لم يكن لأحد أن يواسيك خلال تلك الفترة سواي ,
كنت في كل زيارة أحضر لكَ فرحًا وابتسامة وأشواقا
تهمس بصوتٍ مليء بالحزن : حبيبك مسجون لا يليق بك زوجٌ مسجون أليس كذلك يا شمس .
أنكر و أنا أنفض رأسي : حبيبي أخطأ ويدفع الآن ثمن غلطته , لو أنك كنت حليمًا أكثر على الفتى
لما كنت الآن هنا .
صرخت بجنون : لكنه كان ينظر إليك .
أقدر تلك الغيرة الجامحة فيك يا زياد , وأقدّر الحب في عينيك , أحترم كلّ تصرفٍ يبدر منكَ تجاهي ,
أحترم صراخك وتوبيخك لي , أحترم كل ما يأتي منكَ لي ومن أجلي .
أنا الصغيرة النامية على نبضة قلبك , أنا الطفلة الرابية على كتفيك ,
أنا التي تذهب إلى عينيك بكل ما لديها من حبّ .
أتمنى لو تخبرني يومًا بأن الحب العظيم الذي كبرَ معنا لا يستحق هذه النهاية ,
لو تخبرني بأنني لا أستحق بعدك الفظيع والمرعب عني , وتخبرني بأنك ستنهي هذا العذاب
وتنهي هذه المأساة بعودتك القريبة .
فأنا وبكلّ وحلٍ حملَه هذا الشوق ودنّس أمان الحب وسكينة القرب ,
أحتاج لأن يطبطب عليّ نسيم الرياض ببعض أنفاسك .
بقلم : بشرى المطر