منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - (] النجمُ الآفلُ [)
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-23-2008, 10:05 AM   #1
عبد الله العُتَيِّق
( كاتب )

افتراضي (] النجمُ الآفلُ [)



[] النجم الآفلُ []
( كل ذكرى حلوة و لو كانت أليمة )
أكتبُ هذه الأحرف ، في هذه الساعة ، و قد خالجتني ذكرى وفاةِ أبي ، رحم الله جدثَه الشريف ، لا أدري كيفَ أصوغُ طروءَ ذكرى وفاته ، و ما أحدثته الذكرى من اضطرابِ نفسي ، و سيلانُ دمع العين ، و كتمِ العَبْرةِ و البُكاءِ داخلَ الصدرِ مُحدثةً أزيزاً ، لئلا يُظنَّ أنَّ شيئاً مَّا أصابني ، و ليس إلا الذكرى ، و ما كلٌّ يَعي ألم الذكرى .
فقدُ عزيزٍ له وقعه الشديد على النفس ، خاصةً إذا كان ذاك العزيزُ لا أحد يسُدُّ مكانه ، و لا يحلُّ مقامه ، و كيف إذا كان أباً أو أماً ، مضى الأبُ الطاهرُ الحالِ حيث كان انتهاءُ أجلِه و مدةِ بقائه هنا ، و قد أحدثَ بموته فراغاً كبيراً ، في كلِّ مكانٍ أجد له أثراً ، في كلِّ محلٍّ أجد صورته تتراءى لي ، و أسمعُ صوته و هو يُنادي ، أرى ثيابه التي يلبسها ، و أرى الشوارعَ و قد تمثلتْ فيها ذكرياتُه ، و لكأنها تحكي قصصها معه ، في مجلسي علَّقْتُ صورته و هو ذو البضعة و العشرين عاماً من عمره ، بل صوره تلك المحفوظة في حاسبي ، أو في جهاز الموبايل ، أحادثه حيناً و آخرَ ، و الموتى تُدرك أرواحهم .
في سُفرةِ الطعامِ أجد له مكاناً فارغاً شغلَه غيرُه بَعده ، لم يشغله سوى سلالة صُلبه ، و لكنَّ البدلَ ليس كالمُبدَلِ عنه ، أرى قهوته تشتاقُ لارتشافته الجميلة ، و تعلم متى موعدها معها ، موعدٌ حميميٌ كبيرٌ عظيم ، و أشياءُ صغيرةٌ هُنَّ كبارٌ لكبرِ مقامه ، رحمة الله عليك أبتِ .
تذكرتُ أبي ، ذاك الذي كان صفوة من الناسِ ، و كان من مهذبَ الخُلُقِ ، و " كلُّ فتاة بأبيها مُعْجبة " ، تذكرت رمضانَهُ و كيفَ كانَ معه و كُنَّا معه كرمضانه ، أسمعُ الآنَ من أرشيفِ الذاكرةِ صوتَه النديَّ حين يقرأ ، يُسرعُ في قراءته ، ربما أنهى الجزءَ و الجزأين في جلسة ، بل تذكرتُ صمته إن لم يقرأ ، أراه الآنَ من أرشيفِ الصورِ المخزونةِ قادماً حيثُ محلُّ إفطاره ، تربَّعَ ، دعا بدعواتٍ خفيفاتٍ ، أفطرَ على الرطبِ بعد التسميةِ .
تلك أيامٌ نعيشها معَ أغلى الناسِ و أعظمهم و أعزهم ، لم يكنْ في خلدنا يوماً أن أبي سيموت ، نؤمن بالموتِ ، و لكن لم نؤمن بأنه سيقع يوما في بيتنا ليأخذ أبانا ، و أيُّ حبيبٍ يستحضرُ موتَ حبيبه إلا لخللِ الحبِّ في القلبِ .
آهٍ يا أبي ، كم هي الدنيا قد تغيَّرَتْ بعدكَ ، و كم هي الأحوال تقلبتْ ، أتظنُّ أنك لو رجعتَ ستعرفنا ، لا أظنُّ قكلنا تغيرنا ، أحفادكَ كبروا ، الذين أدركوكَ ، و أبناؤك تزوجوا و أنجبوا ، لا ، ليسوا كما عهدتهم قليلٌ هم ، بل زادوا و رفعوا ذكركَ في الناسِ ، إيْ و ربِّ إنك لمرفوعُ الذكرِ ، عاليَ القدرِ ، لم تتركْ بَنِيْكَ شيئاً لا يُذكرُ ، بل تركتهم ليرفعوا بك رأسهم ، و ليرفعوا رأسكَ ، حتى إذا جيءَ لأحدهم قيلَ : هذا ابنُ سليمان ، فهل ماتَ من خلَّفَ الطُهْرَ ؟ ، لا ، و ألفٌ من اللاءاتِ متتابعاتٌٍ ، ربِّ ارحمْ مَن غُيِّبَ هنالكِ ، و اجعلَ رمضانَكَ طُهرةً بالرِّضى عنه و عليه ، و آله أجمعينَ .

 

التوقيع

twitter: ALOTAIG

عبد الله العُتَيِّق غير متصل   رد مع اقتباس