منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - ممحاة الملامح | محمد البلوي
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-25-2013, 01:16 PM   #1
محمد سلمان البلوي
( كاتب )

افتراضي ممحاة الملامح | محمد البلوي



ممحاة الـ ملامح

إليها: أعرفُهَا، ولا تعرفُ نفسها، وإنْ لم تقتلني محبتي لها قتلتها.

يا امرأة:
مِنْ جبينِ الفقراءِ تطلعُ الشمسُ وفي جيوبِ الأثرياءِ تغيبُ، وظلُّ الشجرةِ للكادحين وثمارُهَا للعابثين، والوطنُ مائدةُ الطغاةِ ولا حظَّ فيه للمستضعفين، والعصافيرُ قمحُ الحياة؛ فمن صَيَّرَ السنابلَ رقصةً للرُّماةِ وكأساً للماجنين؟! والأسماكُ مِلْحُ الْجِبَاهِ؛ فَمَنْ وَهَبَ البحرَ كله للديناميت؟! والمجدُ يصنعه الأحرارُ؛ فكيف ينتحله الأنجاسُ المناكيد؟! أما الشُّعَراء فلا كَيْلَ لهم في الْحِيْلَةِ ولا مِيْرَةَ؛ فَمَنْ جَعَلَ السِّقَايَةَ في رِحَالِهِم ثم أَذَّنَ: "إنكم لسارقون"؟!.

وبعيداً عن الشِّعْرِ بإيقاع وقافية، وعن الأوطان بقافلة، لم نَعُدْ نحتاجُ إلى بُوْصَلَةٍ أو خارطة ولا إلى نَجْدَةِ حظٍّ عاثرٍ أو غَوْثِ حمامة زَاجِلَةٍ، تكفينا قلوبُنَا الحائرة وأجنحتُنَا الْحالمة وفكرةٌ غريبةٌ واحدةٌ تَحْمِلُنَا إلى "رُوْمَا" أو "قُرْطُبَةَ" أو حتى إلى حافةِ الهاوية، فكلُّ الطرق تُؤدِّي إلى نهاياتِهَا لا إلى غاياتِنَا، وكلُّها تقودُنَا إلى الآخَرِ والآخِرَةِ، والآخَرُ عدونا الْمُحْتَمَلُ وإنْ كان حبيبَنا الْمُؤْتَمَنَ، والآخِرَةُ ختامُ الحبو والخطو والحظِّ والْفُرَص السَّانِحَة.

وستسقطُ رُؤُوْسُنَا -حتماً- ولكنْ إلى الأَعلى، سَتَجْذِبُهَا الفكرةُ الْمُجْدِيَة، وتبقى الأرضُ -بجاذبيتها الجذَّابة- مُجْدِبَةً وأجسادُنَا الْمُجْهَدَة مُجَعَّدَة؛ كتذكرةِ سفرٍ فِي جَيْبِ غريبٍ باغته الموتُ فَأَعَاقَ حقيبَتَهُ عن الرَّحيل، والْحقيقةُ فِيهَا تحتَ الْمُغَلَّفِ الأبيضِ وفوقَ الأسود وربما في الرَّمادي أو في جَيْبِ الْمِعْطَفِ، ولكنْ أين الحقيبة؟!.

يا أنتِ:
إنَّ الأفكارَ التي تخوننا لا تخوننا إلا لأننا لَمْ ننقلها من عقولنا إلى قلوبنا، ولو كان لعيني لسانٌ لصار لكلامي مذاق الصور ورائحة الألوان وملمس الصوت الناعم وهو يغوصُ في الجسد المُنهار، ولكنَّه بصري الكفيف أصمّ وأبكم، وببصيرتي أرى وببصيرتكِ أسمع، فأحييكِ بما أرى، وتقتلينني بما بِمَا تَسْمَعِينْ.

والحبُّ -كما أعرفه- هو وَخْزُ اللحظة الْمُرْبِكَةِ الذي نَلْتَذُّ به ونَألَمُ في آن، ونريدُ لها أنْ تستمرَّ في وَخْزِنَا اللحظاتُ، فلا تَمَلُّ مِنَّا ولا تَكِلُّ فَتَكْسِرَ -في مآقينا- إبْرَتَهَا ثم ترحل، وكأننا -حين نُحبُّ- نكونُ الغريقَ واليمَّ واليدَ التي تمتدُّ إلينا بِقَشَّةِ النجاة أو بصخرة الهلاك.

وأعداؤنا لا نُحبُّهم، ولكنَّنا قد نحترمُ بعضهم، وأصدقاؤنا نُحبُّهم، كثيراً نُحبُّهم، وإنْ لَمْ نحترم بعض مواقفهم. ولا ألَمَ يَعْدِلُ خيبةَ الأمل، وقد خابتْ في كثيرٍ مِنْهُم آمالنا، وآنَ لنا أنْ نَتَخَلَّى عن دور الظِّلِّ الْمُنْتَظِرِ؛ فلا نكون الْمَقْعَدَ السَّاهِم في مواعيدهم ولا النَّافِذَةَ السَّاهِرَة، بل الطريق السَّادِرَة السَّائِحَة التي تُتابعُ سَيْرَهَا وإنْ فارقها الرَّفيقُ وخذلها الرَّصيف.

ونعم، لقد استفتيناها قلوبنا؛ فَصَدَقَتْ، ولم تَكْذِبْ قُلُوبُهُمْ، هُمْ أبرياء، ولكنَّها قلوبنا تجرفنا بعيداً عنهم، والصدقُ يُجبرنا على أنْ نهجرهم، وليتهم يصفحون وقد صفحنا، وليته الصفح يكونُ خالصاً والهجر جميلاً.

صديقتي:
إنَّ الأبوابَ جُدرانٌ نُغْلِقُهَا ونفتحها، والنَّوَافِذَ أيضاً، وأنا البيتُ والْمِغْلاقُ والمِفْتَاح، ولن تَلِجِي فيَّ أو تخرجي مِنِّي ما لَمْ أَخْفِضْ لكِ جناحَ المحبة أو عنكِ أغضُّ الطَّرْفَ.

وفي طريقي إليكِ؛ أجمعُ الأبوابَ كلها، ثم أُغلقها، ثم أُودعها صدري، ثم عليها وعلى غاباتها المُغْتَصَبَةِ أغلقه، كي لا تظلَّ أصابعكِ خاملةً ومفاتيحكِ مُعَطَّلَة.

وفي ظلّكِ أبحثُ عن ملامحي، وفي ذاكرتكِ عن رائحتي، وفيكِ عني، فأجدني في حطام لَوْحَةٍ مثقوبةٍ تُشبهني؛ إطارها مكسور، والصورة فيها مقلوبة. وقد أكون حبيبكِ، قد أكون، ولكنَّني –الآن- لستُ مَنْ كنته قبل ثانية، وقد تكونين حبيبتي، قد تكونين، ولكنَّكِ –من جرحٍ يَئِنُّ- لستِ التي عرفتها.

حبيبتي:
وأنا أُمَهِّدُ الطريقَ للطيور الْمُسْتَأنِسَةِ كي لا يُرهقُهَا المسيرُ؛ فتتذكَّر أجنحتها ومِنَّا تَتَطَيَّر فتطير، أُفَكِّرُ؛ ولستُ أدري لِمَ عليَّ أنْ أُفَكِّرَ، وجُلُّ الأفكار الواعدة تجفُّ روحها قبل أنْ يجفَّ حبرها، وأُحبكِ؛ ولستُ أدري لِمَ عليَّ أنْ أحبكِ، وبعضُ المشاعرِ تقتلها المشاعرُ؛ حيناً بالظنِّ الآثم، وحيناً بالثقة العمياء..، وأحتاجكِ؛ ولستُ أدري لِمَ وفِيمَ أحتاجكِ، وأنا مَنْ يُحَمِّلُ نفسَه وتُحَمِّلِيْنَهُ عناءَ إسعادكِ.

أُسْعِدُكِ؛ وأنا الرَّجُلُ التعيس، التعيس جداً، قَتَلَت الطفلَ فيه أحلامُهُ الساذجة مُذْ كان قَلْبُهُ قُبْلَةً في رسالة غرامية لاهبة بين نقيضين واهمَيْن. أكتبُ الألمَ كما لو أنْ سهماً أصابني في ظهري فخرجَ قلماً نازفاً من يدي، وليته النزف كان دمعاً، إذن لقلتُ بأنني رَجُلٌ حزينٌ أو حزينٌ جداً.

يا أنا:
ما كان القلبُ ليقعَ في قبضة الْوَهَمِ لو لَمْ يكن وحيداً وغريباً وبيته هواء. أكتبكِ كما لو كنتُ أمحوني، وأمحوكِ كما لو كنتُ أكتبني، وستظلُّ أوراقي فارغة منكِ إلى أنْ يصيرَ قلبُكِ قلمي وقلمُكِ ممحاتي.

وها شمسنا تميلُ إلى الشَّفَقِ، وأراها تَغْرُبُ، وأرانا نغيبُ؛ ومثلها نحترق. وكلما بكيتِ أو ضحكتِ ستتذكَّرين كم كنتُ أمقتُهَا دمعتكِ وكم أحببتُهَا ضحكتكِ، أحببتُهَا؛ ربما أكثر من محبتي لكِ. وكلما استمعتِ إلى "نجاة الصغيرة" سَتُفَتِّشِيْنَ في صوتها عن قميصكِ الأحمر وعن قلمي الأسمر، وستعودين –مراراً- إلى تلك الصحيفة التي ملأتُهَا لكِ بكلمة "أحبكِ" كطفلٍ يتعلَّمُ الكتابةَ أو ككهلٍ يتعلَّمُ البُكاءَ، وستنسينها ملامحكِ كاملة، ستنسينها؛ وتتذكَّرين منها -فقط- ما كنتُ بالفحم أرسمه وبالحرف أصوِّره، وستسألين نفسكِ -يوماً وربما دوماً- كيف انتهى بنا المطافُ إلى ما يُشبه القطيعةَ التّامة، ستسألينها؛ ثم كعادتكِ سَتنْحِيْنَ عليَّ باللائمة، كما لو كنتُ شَمَّاعَةَ أخطاءٍ عامةٍ في ساحةٍ عامةٍ يقصفها المارَّةُ بِأَوْزَارِهِم ثم يُتابعون سَيْرَهُم غير عابئين بها وضميرها مُثْقَلٌ وضمائرهم مُرتاحة.

أعرفه قلبكِ يَتَقَلَّبُ، وأعرفه حين عليَّ يَنْقَلِبُ، وأعرفكِ حين تحتالين لي وحين تحتالين عليَّ، وأعذره وأعذرك، وحرفكِ الساحر أعرفه حين يُغريني وحين يُغَرِّرُ بي، ولونكِ الآسر حين يُمطرني وحين يُماطلني، وصوتكِ وصمتكِ وشعوركِ وتفكيركِ أعرفهم؛ وعن ظهر قلب أحفظهم، وأظننا بلغناها نُقطةَ اللاعودة أو كدنا، وأظنكِ -وقد جَرَّبْتُهَا محبتكِ الصادقة لي وخِبْرَتَهَا- تُجَرِّبِيْنَ عليَّ –الآن- كيدكِ كامرأةٍ ماكرةٍ، تُحاولُ بالغيرةِ أنْ تَقْدَحَنِي لتفضحني، وبالتَّمَنُّعِ أنْ تَكْبَحَنِي لتُروِّضني، وأنا أتلذَّذُ بذلك واستمتعُ، وليتكِ تتعلَّمين مني كيف نَكْسِرُهَا حِدَّةَ الصدمة الأولى ثم نُفَتِّتُهَا: تُفارقينني فأعودُ، ثم تُفارقينني فأعودُ، ثم تُفارقينني فلا أعودُ إليكِ أبداً.


محمد البلوي

 

محمد سلمان البلوي غير متصل   رد مع اقتباس