منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - العقل _وإن لم يعقل_في مواجهة الدين .
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-03-2009, 10:12 PM   #5
نـــجد
( شاعرة وكاتبة )

الصورة الرمزية نـــجد

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 20

نـــجد غير متواجد حاليا

افتراضي





"أؤمن لأتعقل" (أوغسطين)




ويقول ابن رشد في فصل المقال: "نعلم على القطع انه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع فان الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"،


يقول ابو سليمان المنطقي السجستاني: "الفلسفة حق ولكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق ولكنها ليست من الفلسفة في شيء،
ويقول توما الاكويني: "العقل لا يختلط موضوعه بموضوع النقل، فالعقل يشتق مبادئه مما غرس فيه من مبادىء عقلية والنقل يلجأ إلى الكتب المقدسة، لذلك لا بد أن ينضاف النقل إلى العقل من اجل تحقيق كل مضامين الحقائق الخاصة بالإنسان".

هل ثنائية العقل والدين هي ثنائية منطقية، تشكل شرطا لمعرفية أي فعل معرفي؟



كان إنسان ما قبل اليونان يرى نفسه في وحدة متناغمة مع العالم، فلم يكن هنالك طبيعة وإنسان متقابلان او متواجهان، بل كانت ظواهر الطبيعة عنده تجارب إنسانية وكانت التجارب الإنسانية عنده حوادث كونية. جاء اليوناني، وفي مسعى لجعل الطبيعة ميدان نظر وتفسير وتصور وبالتالي مجال سيطرة وتسخير، ليعلن على لسان هرقليطس بوجود اللوغوس او العقل الكوني والقانون الكلي الذي يحكم الظواهر ويتحكم في صيرورتها الدائمة الأبدية، ثم من بعده اناكساغورس ليرى في النوس اي الروح، القوة المحركة التي أخرجت الكون من حالة العماء والخليط المعطل إلى حالة التركيب والنظام. بهذه القفزات التأويلية للكون، استقر الفكر اليوناني على اعتبار العقل قوة تبث النظام في الطبيعة عبر علاقات السببية Reason فلا مجال للصدفة فيها، وعلى اعتبار الإنسان قبسا من هذا العقل الكلي الذي يكتشف به نفسه ككائن عاقل قادر على إدراك النظام والتركيب في الأشياء.



ورغم ثورة الفكر الاوروبي على القديم، ظل هذا الفكر متمسكا بفكرة الكوني متصورا اياه على انه القانون المطلق للعقل البشري. فالعقل قائم بذاته والعلاقة بينه وبين الطبيعة تقوم على المطابقة والمساوقة.
يقول مالبرانش: العقل الذي تهتدي به هو عقل كلي دائم وضروري وثابت ولا يختلف عن الله.
وقد حاول ديكارت الفصل بين العقل والطبيعة بإرجاعهما إلى طبيعتين مختلفتين: الفكر والامتداد،
ألا أن اسبينوزا أعاد توحيد العقل والطبيعة معا، بقوله إن العقل والطبيعة مظهران لحقيقة واحدة وهي الجوهر، حيث لا صدفة ولا امكان بل عقل كلي شامل هو ذاته العقل الكوني المحابث للطبيعة والمنظم لها.



ورغم ان ديفيد هيوم قد احدث تصدعا في مفهوم العقل التقليدي، عبر سلب الضرورة الموضوعية عن العلاقة بين الاشياء وتحويلها إلى حالة سيكولوجية ينتجها التكرار والعادة في تعاقب الظواهر اثر بعضها البعض. الا ان صدمة العقل المفصلية كانت مع ايمانويل الذي اكتشف المتناقضات العقلية في البراهين اللاهوتية والكسمولوجية ، الامر الذي دفعه إلى اعادة انتاج خارطة عقل جديدة، فلم يعد العقل كائناً قائماً بذاته ولا عبارة عن مبادئ فطرية كما ادعى ديكارت، بل اصبح جملة قوالب قبلية (صورتا الزمان والمكان والمقولات) فارغة تملأها الحدوس الحسية لتحولها إلى معرفة، لم يعد العقل بذلك منظماً للكون والوجود بل أصبح منظماً للتجربة الإنسانية فقط، التي تتقوم بمعطيات حسية ينظمها ويقولبها التكوين الذهني للإنسان وبالتالي أصبحت المعرفة عبارة عن معطيات حسية مؤطرة، لا يمكنها ان تطل على كل عوالم الماوراء. عندها دعا كانط للمرة الاولى إلى تواضع الفلسفة وبالتالي إلى تواضع العقل، ليقول ان المعرفة اليقينية لا يمكنها ان تتجاوز عالم الظاهر. اما الشيء في ذاته فلا يحق للعقل الوصول اليه او التعبير عن حقيقته، وبالتالي فإن العقل عاجز عن الكشف عن كليات الكون وعن اي نظام من نظمه.



حاول هيغل تجاوز تلك المعضلة بأن وحّد بين الظاهرة وبين الشيء في ذاته، عبر التوحيد بين ما هو عقلي وما هو واقعي او موضوعي، أصبح العقل عبارة عن تجليات تاريخية وأصبح النشاط الإنساني بما فيه الدين تمظهرات عقلية متحركة، اي أصبح العقل ميدان فعالية إنسانية. مع كانط وهيغل تأنسن العقل.



مع الكونتم فيزياء ومسألة النسبية، اتجه العلم نحو الكاوسية، ناقضاً بذلك فكرة الثبات والنظام والشمولية التي ميّزت مقولات العقل التقليدية، اصبح الكاوس (Chaos) او اللانظام هو حالة الكون التي تقابل حالة النظام اللاهوتانية او حالة النظام الطبيعي الكلي (الأرسطي). والكاوس هنا لا يعني الفوضى المطلقة، بل يعني ان الكون لم يعد مجموعة ظواهر منتظمة متناغمة ومتسقة، بل مجموعة من منظمات دينامية متداخلة ومركّبة بطريقة معقدة جداً وفائقة الحساسية. أصبحت فكرة الظاهرة البسيطة المسطحة افتراضاً نظرياً لا وجود له وأصبحت النظرة الخطية الطولية القائمة على تسلسل العلل والأسباب تذويباً للظاهرة وافقاراً للكون.



هذا فرض إعادة النظر في مفهوم العقل ذاته، فلم يعد مبادئ فطرية بحسب ديكارت، او قوالب بحسب كانط، بل أصبح أداة وفعالية، أصبح القدرة على القيام باجراءات حسب مبادئ ونشاط منظم او لعب حسب قواعد. لم تعد القواعد التي يعمل بها العقل، كما يقول جول لومو، هي التي تحددها وتعرفه، بل أصبحت القدرة على استخلاص عدد لا نهائي منها هي التي تشكّل ما هيته، ولم تعد العقلانية تقتصر على مطابقة مبادئ العقل مع قوانين الطبيعة، بل اصبحت عبارة عن القدرة على بناء منظومات تتسع لتشمل مختلف الظواهر". تبين ان العقل هو الفعالية التي تقف وراء المبادئ والقوانين الفكرية كلها، والتي يسميها لالاند بالعقل المكون (يالكسر)، فلم تعد المعرفة فعل تلق او اكتشاف بل أصبحت فاعلية إنسانية، وأصبحت الفلسفة كما يراها جيل دولوز ابداعاً للمفاهيم، اي لم يعد نشاط المعرفة العقلية متجهاً نحو معرفة المبادئ الاولى او البحث الطوبائي عن الحقيقة، بل انتقل إلى حيّز ادوات البحث، ولم تعد مفاهيم الفلسفة مفردات للحقيقة بل أصبحت أدوات او مفاتيح تتعامل مع أجواء الحقيقة.



في هذا المناخ المفعم بتصدعات العقل الكلي والشمولي، انطلقت اكثر فلسفات القرن العشرين، لتستعيد الابعاد المنسية والمغيبة من الوجود الإنساني. فكانت فلسفة الحياة التي تصدرها برغسون عبارة عن إعادة إنتاج تجربة الإنسان مع نفسه ومع الأشياء، بعدما تبين له ان العقل التصوري هو أداة تجزئة ومنفعة وصناعة وليس اداة معرفة حاسمة. اراد برغسون ان يكشف عن المعطيات المباشرة للشعور، بالهبوط إلى باطن ذواتنا وتكوين تلك الرؤية التي هي عبارة عن مشاركة وجدانية ننتقل عن طريقها إلى باطن الموضوع لكيما نندمج مع ما في ذلك الموضوع من اصالة فريدة، وبالتالي مع ما ليس في الامكان التعبير عنه عقلياً. يقول برغسون: "ان المسألة العليا في الفلسفة هي الانتقال من المطلق الصوري إلى المطلق العيني الحي، من فكرة الله إلى الله".



ثم كانت الفلسفة الوجودية، التي افتتحها هيدغر بقوله: "ان افضل ما تفعله الفلسفة، هو ان تدع جانباً ادعاءاتها المجنونة لتفسير العالم معقولاً وان تركز اهتماماتها على الإنسان فتصف الوجود الإنساني كما هو". قالباً بذلك القول الديكارتي الشهير: "أنا أفكّر، إذن، أنا موجود" إلى القول: إنني، اولاً وقبل كل شيء، موجود؛ إذن أنا أفكّر"، ورابطاً للمرة الأولى بين الحقيقة وتفتح الوجود البشري بحرية. فالإنسان يمتلك الحقيقة بمقدار ما يكون حراً، ويكون حراً بمقدار ما يكون منفتحاً على الأشياء كما هي، أي أن يتركها لتكون على ما هي عليه، فلا يعيد تشكيلها وانما يدعها تتفتح عليه بنفسه وينقاد لظهورها. بهذا لا يبقى الفكر تعبيراً عن الوجود وتمثيلاً له، لانه بذلك يحجبه ويخفيه، بل يصبح الفكر هو فعل ظهور وتفتح الاشياء.



مع مفكري ما بعد الحداثة، انتقل البحث من التفكير في الحقيقة، إلى البحث في خطاب الحقيقة نفسها وفي كشف شبكة العوامل والمؤثرات بل والتلاعبات التي تنتجها، اي انتقل الهم من انتاج الحقيقة إلى التعرف على مجمل العلاقات الخفية وبنى الروابط ومنطق الممارسات التي تنتظم بها خطب المعرفة، وهو ما عبّر عنه فوكو بالابستمية، وإلى اعتبار خطاب الحقيقة نتاج التقاطع والتلاقي بين جملة علاقات وروابط وسلطات وممارسات وضغوط وتلاعبات واخفاءات. انتهى العقل من كونه جوهراً تنتظم فيه الحقيقة الكلية والشاملة والابدية، إلى مجرد نص يمكن التموضع داخله عبر تفكيك دريداً للكشف عن توتراته الداخلية وفضح تناقضاته الذاتية. لم يعد هنالك فكر متجانس او متماسك، بل اصبح هنالك خطاب حقيقة يحتضن بداخله قوى متنافرة قادرة على تقويضه وتجزئته، لتجعله آخر المطاف يفكّك نفسه بنفسه ويسقط ذاته بذاته.







ان البعد الغيبي في الدين لم يكن يعني وقفية حقائقه واحتجابه وتعاليه على الواقع الإنساني. بل كان الدين دائما في حالة تمظهر واندماج وتكيف داخل الأطر الاجتماعية والبنى الثقافية ونظم التعبير اللغوي والسيميائي. ليس الدين تراث النبي المؤسس او نص الوحي الذي نتلقاه كمؤمنين بهيبة وإجلال فقط، بل هو أيضاً حصيلة التمأسس التاريخية للدعوة الدينية التي تحصل بعد رحيل المؤسس، حيث ينتقل الدين من حالة وعي وجداني والتزام عفوي بالنص، إلى حالة منظمة ومعقلنة للوعي، تحتوي على مجموعة عقائد مشتركة ومبادئ تشريعية وسلوكية وممارسات عبادية جامعة" وعلى اطر تنظم العلاقة بين المؤمنين. يقول ماكس فيبر: الدين نوع خاص من التصرف في المجتمع يتضمن ذلك المجال في تنظيم علاقة الإنسان مع القوى الخارقة، فكل ديانة هي تنظيم بمعنى ما يتضمن ادوارا متمايزة وتراتبية بين هذه الادوار.



تأسس وتمأس الدين يفرض تموضعه في المجتمع، ليصبح جزءا من شبكة السلطة وقوى الضغط وجماعات المصالح وبنى الوعي والثقافة ومنظومة القيم، وتصبح هذه جميعا جزءا من تكوينه ايضا، بحيث تكون مجتمعية الدين من صميم منظومة الدين نفسه. فحين يخلق الدين مواقع اجتماعية وتراتبيات داخلية فيه وتمايزات خاصة لممثليه، نراه يعمل على تقديس تلك الإجراءات، ليصبح الانتظام الاجتماعي جزءا من المقولة الدينية، ويكون التقيد بالتراتبيات المنشئة داخل الدين شرطا من شروط الوفاء بالإيمان وضرورة من ضرورات قبول الأعمال عند الله. وحين يفرض الدين معتقداته في المجتمع، فانه لا يفرضه من باب الدليل العقلي او المتانة المعرفية، بل يستعين بقواعد الإلزام التي يولدها المجتمع حول معتقداته وقيمه، ويستند إلى قوة الإجماع التي توفر وضوحا ذاتيا للأفكار وباعثا طوعيا على الالتزام بالمعتقدات الدينية. وهذا يفسر مقولة الغزالي: "الإجماع أعظم أصول الدين".



لذلك لم يمنع الغيب الدين من ان يكون ميدان فعالية إنسانية. فالمعرفة الدينية ليست نصا وحيا بل هي حالة تلق وتفاعل مع هذا الوحي ونشاط تأويل وتفسير لهذا النص، وإعادة إنتاج مستمرة لحقائقه في ساحة الاجتماع والسياسة والاقتصاد. ليس المعنى الديني فكرة أتلقاها من النص بل هو حصيلة جدل وصراع وتركيب بين ذات قارئة محملة بمسبقات مكثفة وهواجس متداخلة ومعقدة وبين نص تتركز فيه الدلالات وتتداخل فيه عوالم الغيب والشهود. فالنص كما يقول بول ريكور أشبه بقطعة موسيقية والقارئ أشبه بعازف الاوركسترا الذي يطيع تعليمات التنغيم. وبالتالي ليس فهم النص مجرد تكرار للواقعة الكلامية التي أنشأت النص، بل هو توليد لواقعة جديدة تبدأ من النص الذي تموضعت فيه الواقعة الأولى. وكما يقول ايمانويل كانط نحن نخلق بنسبة النصف ما نحن ندركه، كذلك فان القارئ لا يتأمل نصا بحيث يكون هنالك معنى ولكنه يجلب إلى النص ادراكاته وتفضيلاته الخاصة.



تبين ان هناك ذاتا فاعلة وراء قواعد العقل ووراء المعنى الديني ايضا، وان مفهوم كل من العقل والدين والعلاقة بينهما ما هي الا انعكاسات لواقع انتجه ومرآة لصورة اكونها عن ذاتي. انتهى العقل نصا أتموضع في داخله لأكتشف تلاعباته وايداعاته وتناقضاته وانتظاماته، وانتهى المعنى الديني ايضا جدل ذات مع نص كونته شروط متعالية واستثنائية. أصبح العقل والدين معا ميدان تأويل يشبع به الإنسان سعيه الدائم إلى المعنى ويصنع به ذاته وحقيقته ويبني به تجربته في العالم والوجود.


* من مقال للدكتور وجيه قانصو

عبدالعزيز ثبّت الله دينك وكمّل عقلك

 

التوقيع




نـــجد غير متصل   رد مع اقتباس