أيها العقل من رآك؟
عبد الله القصيمي
١١
ما أسخف الحياة لو كنا لا نفكر ولا نعتقد إلا ما نفعله.
الذين يفعلون الصواب لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق. كذلك الذين يفعلون
الخطأ، لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق. ليست الحضارة أو الأخلاق أو فقدها
منطقًا أو فقدا لمنطق. إنها قدرة أو فقد للقدرة. ليس أعظم الناس إبداعا وحضارة
وأخلاقًا هم أعظمهم منطقًا.
حينما نشتبك في مناقشات ومبارزات جدلية لا نستعمل في الحقيقة عقولنا، وإنما
نستعمل أعصابنا وتوتراتنا – أيدينا من بعيد. إن من يقاتل بعقله إنما هو يقاتل
بيديه اللتين أخفاهما وراء كلماته.
إنك، إذا استعملت منطقك ضد إنسان، فأنت تريد أن تقتله أو تسبه أو تهزمه،
ولست تريد أن تعلِّمه. إنك حينذاك شاتم، لا معلِّم.
إن الإنسان لا يفكر أو يناقش ليخلق حالة، بل ليشرح حالته. إننا لا نستمع إلى
من يفكر أو يناقش لنتعلم منه أو لنفحص عما نسمع، ولكن لندافع عن حالة نحياها
أو نتمناها أو نريدها.
*
أنا أفكر لأني أحيا، ولا أحيا لأني أفكر. أفكارنا دائما تعبير عنا، ولسنا تعبيرا
عنها. كلُّ جهاز يصنع عمَله، ولا يصنعه عمُله.
الآلام قد تتحول إلى أفكار، لكن الأفكار لا تتحول إلى آلام. قد يصبح التشاؤم
تفكيرا، لكن لن يصبح التفكير تشاؤما. لو كانت الأفكار تصنع الناس لأمكن صنع
١٢
أعظم الشعوب بإعطائها أعظم الأفكار. الشعوب العظيمة تبدع أفكارا عظيمة،
لكن الأفكار العظيمة لا تبدع شعوبا عظيمة.
كلُّ شيء يمكن أن يؤدي عمله بما يمكن أن يسمى غريزة الأشياء.
إن الأنبياء لم يبعثوا إلى الناس والوحي لم ينزل عليهم لأنهم أفضل من الكائنات
الأخرى، بل لأنهم أجرأ وأقدر على الادعاء والكذب باسم الكائنات البعيدة
الصامتة.
إن أشد الفلاسفة احتقارا للعالم ولما فيه من آلهة وعظماء وشهوات لا يقل، في
استمساكه بالحياة وقبوله للهوان فيها، عن أبسط الناس وأقواهم إيمانًا بحكمة
الكون وثقة بأربابه الذين صنعوه ووضعوا فيه جميع أسرارهم وذكائهم ورحمتهم.
إن الشيء، لكي يعيش وجوده، لا يحتاج إلى مب رر، حتى ولا من نفسه. إن وجود
الشيء مب رره.
إن المنطق، في جميع حالاته، هو الإنسان.
لم تكن أديان البشر وأفكارهم وآلهتهم تعبيرا عن خوفهم من الكون ومن
محاولاتهم لتفسيرها والتناسق معه، بل لقد كان تعبيرا عن خوفهم من أنفسهم
ومن محاولاتهم لتفسيرها والتناسق معها.
إن اختلاف الناس في الآراء والمعتقدات لا يعني اختلافهم في تفسيرهم للكون،
وإنما يعني اختلافهم في تفسير أنفسهم.
١٣
إن منطق الإنسان هو محاولته فهم الكون ليتلاءم معه.
كل شيء في الوجود خاضع للوحة قانونية تحتوي على كلِّ أجزائه، كما يحتوي
القانون العلمي والرياضي أجزاء هذا القانون كلَّها، أي كما يحتوي الشي ء نفسه.
إنه غير ممكن أن توجد القوانين الموجدة للشيء ثم لا يوجد ذلك الشيء.
القوانين العلمية ليست سوى قوانين كونية صيغت في كلمات – أي أن قوانين
الكون ومنطقه قد تحولت إلى منطق إنساني.
العالم كلُّه وجميع أنواع المعرفة مأخوذة من الكون، لكن الكون ليس مأخوذًا من
شيء. نحن على مقاس الكون، والكون ليس على مقاس أحد.
إنه محتوم وجود أول ليس له أول. والأول بلا أول ليس مأخوذًا من شيء، ولا
يمكن أن يكون علميا أو أخلاقيا.
لا فرق بين صنع قلم وصنع كوكب يطَلق ليسير بين المجموعات الكونية الهائلة،
حيث إن كليهما خاضع لقوانين محتومة.
إن معنى الوحدة القانونية معنى كبير. إن معرفة قوانين إحدى وحدات هذا الكون
والسيطرة عليها تعطي الفكرة نفسها عن سائر الوحدات الأخرى المماثلة.
إن وظيفة المنطق الإنساني أن يتتبع القوانين الكونية ليصيرها إلى قوانين علمية
ومقدمات لنتائج.
١٤
لا توجد منطقة من مناطق الكون مح رمة على منطق الإنسان، لأنه لا توجد
منطقة من هذا الوجود لا تحكمها القوانين التي هي من تصنيف منطق الإنسان
وتفاسيره.
إن جميع المفكرين المؤمنين يرون أن الفكرة التي يجدونها مبثوثة في هذا الوجود
هي أعظم البراهين؛ هي وحدها البرهان الدال على وجود الخالق المفكر المدبر
لخلقه بالفكر والمنطق الأزلي. إنهم يرون أن الكون وجِد وانتظم وبقي بالفكرة،
وبها يبقى. وهم بذلك يعتقدون أن الفكرة سابقة الوجود لأن الوجود قد كان بها،
ولم تكن هي به. إذن محتوم أن الفكر أبو الوجود. فلا شيء إذن فوقه ولا شيء
محرم عليه.
نحن لا نستطيع أن نفكر أو نضع قوانين منطقية من غير وجود مادي نأخذ منه
منطقنا وأفكارنا ونعكسها عليه ونحسبها به. فالمنطق والتفكير هما حركة المادة،
هما حساب هذه الحركة. بل لا وجود لمنطق ولا تفكير، وإنما توجد مادة لها
خصائص. إن إحساسنا بهذه الخصائص المادية هو ما نسميه منطقًا أو فكرة أو
قصدا مدبرا.
افتراض وجود فكرة خارج المادة كافتراض مثال خارج مادة.
المنطق يعرف بالحقيقة، لكن الحقيقة لا تُعرف بالمنطق.
منطق الإنسان هو منطق الإرادة كما ينبغي. أما منطق الكون فهو منطق الشيء
كما هو.
١٥
ليس من شيء فوق العقل. التفكير هو انعكاس الكون على الإنسان. الشيء الذي
نشعر نحوه لا بد أن نفكر نحوه. الفكر حركة، ولا شيء لا يتحرك في هذا الكون
– حتى لو أردنا نحن ذلك.
الطاقة النفسية هي التي تتحول إلى آلهة وشياطين، وإلى معابد وملاه، وإلى غناء
وصلوات.
القيود الفكرية ضرورة لكلِّ مجتمع؛ إنها ضرورة، لا فضيلة.
إن الإيمان بالله يل وث الله ويسقط الكون والإنسان. أما الإيمان بالكون والإنسان
فإنه يسقط الله. وأما الإيمان بالله والكون والإنسان فإنه يحقِّر الإيمان والذكاء.
إننا لا نجد حتى اليوم ذلك الذي جرؤ على الاستمساك برأيه أو موقفه إذا كان
يعيش فيه احتمال موت أو عذاب.
إننا جميعا أبطال – إذا كانت البطولة تعني في حسابنا الربح والشهرة.
ليس البطل هو الذي يدخل معارك لا نهاية لها مع الخصوم، وليس من يخترع
الخصوم اختراعا. البطل هو الذي يكسب الحياة والحرية للإنسان. وإذا استطاع
ذلك، بلا خصوم ولا خصومة، كان هذا هو النصر الذي تهتف له النجوم.
البطولة تصدر عن عقل متفوق آمن بأفكار متفوقة؛ وليس في الوجود كلِّه قوة
أقوى من قوة الفكرة العظيمة.
١٦
اقتحام الألم نوع من التفكير الصعب. وضخامة المغامرة ليست مفصولة عن قيمة
الهدف.
إن قوة المواقف قد تكون مأخوذة من قوة الحياة، لا من قوة الأفكار؛ وقوة الأفكار
مأخوذة من قوة الحياة وليس العكس.
الأمم الكبيرة بأفكارها تجيء كبيرة بأخلاقها. فلذة الألم في سبيل الفكرة الكبيرة
أكبر من الألم نفسه.
لا شيء يتفوق على إرادة الحياة غير إرادة الفكر.
إن المنتحر تحت فكرة – أو بلا فكرة – لأكثر نبلاً وشجاعةً من أ ي شهيد في أية
حرب.
نحن نفاخر أهل الأرض في أننا وحدنا المو حدون الذين يعبدون إلها واحدا، كبيرا
جدا، لا نُشرِك به أحدا. ولكن ما أكثر الأصنام التي نعبد، ما أكثر أصنامنا!
ليس الذي يصلِّي للشمس أو الوثن أو الأحجار أو الحيوانات أعظم شركًا من
الذي يصلِّي فكره واعتقاده ونظامه لأحد الموتى البعيدين عنَّا جدا.
الشهوة المتفجرة هي أمضى أسلحة الحياة؛ والإنسان الشهواني يفعل الحياة أكثر
مما يفعلها خامل الشهوات. لكن هذا السلاح أعمى؛ وهو حيوان حتى يحكمه
العقل. حينئذ يصبح مبصرا، يصبح إنسانا مبصرا.
لا توجد عقائد لو لم توجد عواطف؛ ولكن العواطف توجد بدون عقائد.
١٧
أمراضنا وآلامنا النفسية محتوم أن تتحول إلى قادة ودعاة وأنبياء. إن المص حات
العقلية والنفسية هي أحفل المواطن بالملهمين والإنسانيين – وأقرب الطرق إلى
السماء.
الدين، إن كان صدقُه قد علم بالعقل، فالعقل إذن صادق الحكم في رأي الدين،
وله، إذن، أن يحكم عليه في كلِّ الأوقات، لأنه هو شاهده. ولو شككنا، مع هذا
الافتراض، في العقل لكان هذا تشكيكًا في الدين نفسه على ما سبق.
إن الذي يعرف الله ووجوده بعقله يجب أن يعرف بعقله كلَّ شيء.
العقل لم يست َ شر في الأديان، وإنما أُخَذتْ بالتلقين والتتابع. فالذين يولدون في أ ي
دين يكونون من أهله.
الناس يجدون أديانهم كما يجدون أوطانهم وأرضهم وبيوتهم وآباءهم؛ يجدونها
فقط ولا يبحثون عنها أو يؤمنون بها أو يفهمونها أو يختارونها.
الناس في زماننا يعتقدون، ثم لا يفكرون، أو يفكرون فيما يجعلهم لا يفكرون.
لو كانت الأديان خاضعة لحكم العقل لضاقت الخلافاتُ فيما بينها وتناقصتْ، أو
لتداخلتْ وتو حدتْ كلُّها في دين واحد كالذي حدث في الموضوعات الصناعية
والعلمية التي ابتكرها العقل؛ أو لوجدنا المؤمن يخرج من دين إلى دين بالسعة
والسهولة التي ينتقل بها من فكر إلى فكر، من موضع إلى موضع.
الأديان لا تنتصر إلا في المعارك التي تتجنبها. فهي لا تحارب بالعقل ولا
تحارب العقل، أي لا تدخل مع العقل في معارك حرة – ولهذا ظلت منتصرة!
١٨
إن السماء، لو أرسلت لنا كلَّ أنبيائها ينهوننا عن الإيمان ويح رمون علينا كلَّ
عبادة، لعصينا كلَّ الأنبياء وبقينا نؤمن ونصلِّي ونتعبد. فالعبادة استفراغ روحي،
وعملية جنسية تؤديها الروح لحسابها، لا لحساب الآلهة.
أردنا، فتصورنا، فاعتقدنا، فاقتنعنا.
إن العقل الذي لا يتناقض هو العقل الذي قد مات. ولا يحتمل أن يثبت أ ي إنسان
حياته كلَّها على حكم واحد.
العقل يتغير لأنه شيء قوي. فالشيء القوي لا يثبت على حال. والقوي أكثر
تغيرا من الضعيف وغير الشيء. غير الموجود هو الدائم الثبات، لأنه لاشيء.
تناقُض العقل ليس ضعفًا فيه، لكنه يعني أنه يعمل في عدة ميادين وينظر إلى كلِّ
الجهات. والعقل هو الذي يدرك تناقض العقل. فالتناقض وإدراك التناقض
أسلوبان عقليان. وهو يدرك سخف العقل وهزائمه. العقل، ناقدا ومنقودا، هو كلُّ
المعرفة.
الخرافة تدعو إلى الدوام؛ والخرافة أكثر دواما من الحقيقة.
العقل عمل الوجود الحسي.
إذا ح َ كم العقلُ فحكمه أن يرى الحركة فقط ويف سرها.
الكون ومنطقُه هما الله ومنطقُه. ماذا لو طالب البشر حكَّامهم أن يحكموهم بمنطق
الكون؟!
١٩
الآلهة لا تستجيب لمن يدعونها ويصلُّون لها، إنما تفعل الواجب والحق. إذن لماذا
تُدعى ويصلَّى لها؟ وهل يدعى النهر ويصلَّى له ليفعل ما هو فاعل؟!
أي خالق هذا الذي يجعل مخلوَقه محتاجا للعذاب والتلوث والمعاناة والأحزان
ليكون مخلوقًا سعيدا؟!
إن الذي يصنع الش ر، وهو غير محتاج إليه ويستطيع أن لا يفعله، ش ر جدا من
الذي يفعله وهو محتاج إليه وعاجز أن لا يفعله.
الذي تكون شريعتُه فرض المثالية، كيف تكون حكمتُه الخروج على المثالية؟!
كيف يعاقب الإله على فعل أشياء هو يفعلها – مع أن الناس يفعلونها بالشهوة
والضرورة، وهو يفعلها بلا شهوة ولا ضرورة؟!
أنت ومخالفك، كلٌّ منكما يرى ما لديه هو المنطق، كلٌّ منكما يرى شيطانه هو
القديس، كلٌّ منكما يرى الله معه وحده.
إذا طلب َ ت أن يكون الآخرون منطقيين كنت تعني أن يكونوا متلائمين معك،
متَّبعين لك، مسلِّمين برأيك. ومن وقف عند منطقه بعناد وقف عند ذاته بعناد.
الذين لا يخضعون للمنطق هم الذين يصنعون المنطق. أما الذين يخضعون
للمنطق فسيظلون بلا منطق، لأن المنطق الذي يخضعون له سيح رم عليهم كلَّ
منطق.
٢٠
لا يوجد منطق متع صب ومنطق متسامح، بل يوجد قوم متع صبون وآخرون
متسامحون. فمنطقنا هو صورتنا، ولسنا نحن صورته.
المنطق، كما كيفما كان، ليس موجودا في ذاته، وليس منفصلاً عنَّا ولا متحققًا في
الشيء نفسه، إنما هو علاقة تصورية تقوم بين الكائن وذاته وبينه وبين ظروفه
الخارجية.
إن الشرير جدا يستطيع أن يكون فاضلاً جدا، وذلك بأن يبالغ في الثناء على الله
وعلى الأمجاد القومية التاريخية الخالدة، بينما يحتقرها في سلوكه بكلِّ أساليب
الاحتقار.
"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك" – إذن كيف يغفر لمن ينك ر
وجوده؟!
أليس الملحدون الذين يعيش على عبقريتهم المؤمنون أعظم فضيلة وتدينًا من
المؤمنين الذين يعيشون دائما على ذكاء غيرهم وقوتهم؟
الفاسق في عرف الدين، مهما كان نوع فسقه، ليس شريرا كالمفكر المخالف في
تفكيره.
العقائد القوية هي دائما جند مخلصون للطغاة والمستغلين. والجماهير هي، كما
تُح َ كم بالجيش القوي، تُح َ كم أيضا بالخرافة القوية.
يتبع