بحيث تكون وحدة واحدة ، تحتوي على القيم الفنية التي تكسب العمل فنيته ، وتمنح المتلقي إحساسا بالجمال ، ولكل فن من الفنون عناصره ومكوناته ، وخصائصه الجمالية ، ولكي لاتكون الفنون ميداناً للخلط والاضطراب ، كان لزاماً تبصير الفنان بمواطن الجمال ، وكيفية التأتي إليها ، والسبيل إلى ذلك هو إبراز الضوابط الفنية، التي هي بمثابة القواعد في العلوم، إن الإمام عبد القاهر الجرجاني كان على وعي بمقياس الفن في بيت البحتري
1)
كلفتمونا حدود منطقكم
في الشعر يُلغىٓ عن صدقه كذب
فعقب قائلا : أراد كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق ، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق حتى لا ندعي إلا مايقوم عليه من العقل برهان يقطع به (2)وهذا مذهب ذهب إليه ابن قتيبة وطبق الأقيسة العقلية على الشعر فأنهك الصورة الشعرية، ومعنى هذا التمايز والتباين بين المقاييس الفنية والمقاييس العلمية ، رغم اتساع المصطلح لذلك كله ، فلا الفن يتناسب مع مقاييس العلم ولا العكس ولكني وجدة هذه القاعدة شاذة في بيت امريء القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهنا يطبق هذا الشاعر الأمي قانوناً علمياً ألا وهو قانون الجاذبية الأرضية قبل أن يكتشفه نيوتن بستة عشر قرنا (3) .
وأشير هنا أن القاعدة العلمية تقود وتلتزم حتى توصل للمعرفة أي 1+1=2 ، أما القاعدة الفنية أو المقياس الفني فإنه يرشد و لا يلتزم
تطرق جمجمتي بعض الأسئلة :
ما العلاقة بين المقاييس والبلاغة؟
ما الوجه في إضافةخ المقاييس إليها
وتبرز لي الإجابة ، أن للبلاغة في المفهوم العربي مفهومين لامفهوم واحد ولكشفهما ، يقتضي وقفة مع مصطلح بلاغة ، ومع المراحل التاريخية التي مر بها، فكلمة بلاغة كان المراد بها قديما المعنى الأدبي الفني الصرف ، أي القول الجيد، أي أنها تستعمل وصفاً للكلام ووصفاً للمتكلم قال أكثم بن صيفي (4) البلاغة الإيجاز وقول خلف الأحمر، البلاغة لمحة دالة ، أما استعمالها وصفاً للمتكلم فقال صحار العبدي(5) عندما سأله معاوية عن البلاغة فأجاب : إن البلاغة أن تجيب فلاتبطيء وتقول فلاتخطيء .
فالبلاغة بمفهومها الفني الذي يراد به جودة العمل الأدبي (قديمة قدم الأدب نفسه) لأنها مرادفة للأدب ، فالشعراء منذ العصر الجاهلي كانوا يقفون عند اختيار الألفاظ والمعاني والصور ، ويسوقون ملاحظات لاريب في أنها أصل الملاحظات البيانية (6) استنوق الجمل قالها طرفة بن العبد للمنخل اليشكري ، وقبلهما تلك المحاكمة الشهيرة بين امريء القيس وعلقمة بن عبدة
(روى أبو الفرج الأصبهاني، حيث قال: كانت تحت امرئ القيس امرأة من طيئ تزوجها حين جاور فيهم، فنزل به علقمة بن عبدة التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك. فتحاكما إلى زوج امرئ القيس، فأنشد امرؤ القيس قصيدة طويلة أولها قوله:
خليليّ مُرَّا بي على أمِّ جندْبِ
نُقّضِّ لباناتِ الفؤادِ المعذَّبِ
حتى مر بقوله:
فللساق أُلهوبٌ وللسوطِ دِرّةٌ
وللزجْرِمنه وقْعُ أهوجَ مِنْعَبِ
وفرس مِنعب: بكسر الميم، وسكون النون، وفتح العين، الذي يستعين بعنقه، ويمدّه في الجري..
ثم قال علقمة قصيدة طويلة من البحر والقافية، أولها:
ذهبْتَ من الهجْران في غير مذْهبِ
ولم يكُ حقاً كلُّ هذا التجنّبِ
وأخذ علقمة يصف حصانه وهو يطارد الصيد،حتى انتهى إلى قوله:
فأتْبع أدْبارَ الشياه بصادقٍ
حثيثٍ كغيث الرائحِ المتحلَّبِ
والحثيث: - السريع، والرائح: السحاب، والمتحلب: المتساقط، المتتابع.
وللبيت رواية أخرى..
ويُروى البيت هكذا:
فأدْرَكه حتى ثنَى من عنانِه
يمرُّ كغيثٍ رائحٍ متحَّلبِ
وسبب جوار امرئ القيس لقبيلة طيئ، هروبه من (المنذر)، ولما سمعت أم جندب (زوج امرئ القيس)، حكمت أم جندب لعلقمة، فطلقها امرؤ القيس، وخلف عليها علقمة بن عبدة بن النعمان التميمي، فسمّي علقمة الفحْل، وقيل سمي بعلقمة الفحل، للفرق بينه وبين شاعر آخر من قومه، يقال له: علقمة الخَصيّ. وانظر الأغاني جزء 21 صفحة 224 - ,,227.
وكان علقمة الفحل من المعمَّرين، لأنه عاصر امرأ القيس، وقد مات امرؤ القيس الكندي قبل الإسلام بنحو ثمانين سنة، وعاش علقمة حتى أدرك بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لم يدرك الهجرة، لأنه مات سنة 620 للميلاد. وقد أعقب ولدين : علياً وخالداً، وكانا شاعرين، وكان لعلي ولد شاعر يسمى (عبدالرحمن) ، وللثلاثة أشعار تلحق بديوان (علقمة الفحل)..
وأعود إلى ما حكمت به زوج امرئ القيس التي قالت: علقمة أشعر منك، قال: وكيف، قالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك. وأنه جاء هذا الصيد، ثم أدركه ثانياً من عنانه.. دون أن يضربه بسوط، وما مرى فرسه بساق. وانظر: (خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب) للبغدادي، ص284 جزء 3 طبعة دار الكاتب العربي بمصر سنة 1387ه.
فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلْتِ، ولكنك هويتِه، فطلَّقها، وتزوجها علقمة فسمي الفحل .
2. أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني
3. بلاغة أرسطو بين العرب واليونان
4.جمهرة خطباء العرب ، أحمد زكي صفوت
5.العمدة في محاسن الشعر ونقده أبو علي الحسن بن رشيق
6.النقد الأدبي ، سيد قطب رحمه الله
7. محمد الشدوي ، صحيفة المدينة ، الشدوي يرد على اعتدال الذكر الله