منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - حُـفـاة
الموضوع: حُـفـاة
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-27-2012, 07:28 PM   #1
سهير السميري
( كاتبة )

الصورة الرمزية سهير السميري

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 13

سهير السميري غير متواجد حاليا

افتراضي حُـفـاة


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


حُـفـاة




فِي هَذا الهُراءِ المُسمّى حياةً ! كُنّا ثمانيةَ أفواهٍ , ثمانيةَ ثقوبٍ نَتحرّكُ في دائرةٍ نصفُ قطرِهَا فقرٌ
والنّصفُ الآخرُ حِرمانٌ .

هل أرْهقَنَا أبِي، أمْ أرهَقْنَاهُ ! لا أدري أيُّنا أشْقَى !

أبِي ، أحدُ الحُفاةِ ، تأرْصفَ كَثيراً وهُو يبيعُ الجرائدَ علَى بَسْطةِ الحَياةِ , طوى حصيرة عُمرِه
على رصيف إعتاد قدميه , كان كل ليلة يجُرُّ الطّمَأنينةَ مِن قَرنَيْها ,
يشُدّها لِتتعرّفَ عَليْنا , ولَكنّها كانتْ تَنأى بنفسْها عنْ بيتٍ تسكنُهُ الرُّطوبَةُ ,
أبوابه مُخلّعة ونوافذه مُغطاة بأكياس النايلون .

لاَ مفرَّ يا أبِي لا مَفرَّ, الحياةُ تنصِبُ لنَا الفِخاخَ وتُغلِق في وَجْهِنا الأبوابَ،
فَلا غَرابةَ أن نَكونَ على أُهبةِ الغرقِ دائماً كمنْ يركبُ لوح ركمجةً مَكسورةً في أمواجٍ عاتيةٍ !

وُجودُنا جميعاً في غرفةٍ واحدةٍ يفاقمُ كثرتنَا .

أكانَ لِزاماً أنْ نكونَ ؟! أكانَ صَواباً هَذا الاحْتكاكُ بينَ هيكلَينِ عَظمِيَّينِ ؟

النَّحسُ رَافَقنا كَثؤلولٍ كبيرٍ لازمَ أنفَ أبي حتى وفاتِه , كانَ فقرُنا بِلا ذِمّةٍ،
كأنّنا مُجردُ أثوابٍ رَثّةٍ تنبِضُ في الفراغِ، وتعبَثُ بنا الظروفُ عبثَ الريحِ بالرمالِ !

أمّي التِي يَستيقظُ لِسانُها عَلى كلِّ الأدعيةِ وآياتِ الصبرِ..
كانتْ تقرأُ عليْنا بِهدوءٍ مُستعارٍ : " إنَّ معَ العُسرِ يُسراً "
ولَكِنّنا لمْ نرَ معَ عُسرنَا إلاّ عُسراً , ولم يُوَلِّدْ فقرُنا إلا فقراً.. علَى الأرجحِ كَبِرنَا على غفْلةٍ منَ الموتِ !

طالمَا اسْتدعَتنِي لأُدخِلَ لهَا الخيطَ فِي ثُقبِ الإبْرةِ، تُرى كمْ خَيْطاً لزمَنَا لنَرْفُو ثوبَ العِوَزِ،
ونُقطّبَ جُرحَ الفاقةِ ؟ كمْ إبرةً ؟

صوتُ " اليَرغولِ " ترفٌ متاحٌ ليرافقَ قِلة حيلَتِها, ويَقهرُنِي منظرُ عَينَيْها عندَما تَقلقُ أو تدمَعُ ,
أضُمّهَا وأخبرُهَا : لاَ يَهُمّكِ يَمّة , عِندمَا أكبرُ سأزرَعُ لكِ مِلحاً وكازاً وسُكَّراً .

وقبل أن تدب الحياة صباحاً , بل قبل أرغفة المدرسة وقبل أصوات الباعة وأبواق السيارات
كنتُ أهْرع إلَى الشّوارعِ حاملةً عُمُرَ الحاديةَ عشرَ وساقين مقوسين ,
يَصحَبنِي أخِي الذِي يَصغُرني بِشمْعتينِ , نُوقظُ الأزقة ونُفزعُ القططَ النائِمَةَ في الحَاوياتِ ,

فتُدهشُنا تلك النّفَايات التي أصحابها لهُمْ وجوهٌ مكتنزةٌ وظِلالٌ مُنتفِخةٌ ,
حتماً فِي هذا الكونِ بشرٌ يتناولُونَ أكثرَ منْ وجبةٍ في اليومِ !

كثيراً مَا كانتْ يدِي الصغيرةُ تَعْبثُ ببقايَا جيفَةً دونَ أن يَعلَقَ فِي صنّارَةِ أصابعِي شيءٌ ,
لم أتأفّفْ يَوماً مِن الرّائحَةِ ، كانتْ تُشبهُ روائحَ اعْتدنَاها في بَيتنا أو صَفِيحِنا المُعلّبِ .

كنتُ علَى يقينٍ أن اللهَ سيغفرُ لي , فَعلَى الرغمِ منْ كلِّ مَا كنتُ أسرقُهُ مِن الحاوياتِ لَمْ أحْظَ يوماً باسْتدارَةِ رغيفٍ ولا بمُحيّا وجبةٍ !

لطالمَا أقسمتُ أنّني لنْ أعودَ لزيارةِ مَكبِّ النّفاياتِ , لكني كنتُ أنكثُ قسمِي كلّ يومٍ
وأجهّزُ نفْسِي لإطعامِ عشرةِ مساكينَ , نحنُ و والدَانا ! .

في هذه الحياة المستعملة تنازلتُ مُبكّراً عن الأحلامِ , رسمتُ لهَا أجنحةً فطارتْ بعيداً ولم تعُدْ ,
الأحلامُ مِثلنَا تحتاجُ إلى الخُبزِ والخبزُ شحيحٌ !

لمْ تفكرِ الدّنيَا مرّةً واحدةً بأنْ تمْسحَ بِيدِها علَى رُؤوسِنا , كانتْ هُناكَ مآذنُ شاهقةٌ ,
وسماءٌ واسعةٌ وليالٍ صافيةٌ ونحنُ بكلّ عكَرِنا وعِوزنا !
كمْ أنتِ متناقِضَةٌ أيّتُها الحياةُ !

أراوِغُ رُوتينَ الخُبز والشّايِ, وأفكّرُ برسمِ غَمّازَةٍ أوِ اثنَتيْنِ علَى وُجوهِ إخْوتِي وأتعمّدُ مُفاجأتهُمْ
بنفْحَةٍ منَ الرّفاهِيّةِ.. أُريقُ ماء وجهي و أقصدُ الجزارَ , أتَسَمّرُ طَويلاً علَى بابِهِ ,
أتصبّبُ ذُلاً , ثُم أطلبُ منهُ عِظاماً للكلابِ "عِظاماً تَكْفي لثمانِيةِ كلابٍ" لمْ يستشرْ أبي أحداً في عَددِهِمْ .

يَا اللهُ , عَظّمْ أجْرَنا فِينا , فقدْ مِتنَا بمَا يَكفِي لنعِيشَ .
أيتُهَا الحَياةُ , لَسنَا سَيّئينَ كمَا تَظُنّينَ , تَعالَيْ , اِقترِبِي بِمقدارِ فَرسخٍ , أو نصفِ شبرٍ ,
تعالَيْ اجْمعِي مَا انْكسرَ فِينا , واعْتذرِي لأمّي كيْ أحبَّكِ .


____________________________


نـُشر هذا النص في جريدة الرأي الاردنية وايضاً في جريدة الدستور

 

سهير السميري غير متصل   رد مع اقتباس