( تقارب الحروف لتقارب المعاني )
- كيمياء الغي -
يرى البعض أنّ تكرار عدة كلمات ٍ بنفس الأصوات تقاربٌ لمعانيها ولعلّ أول القائلين بذلك " ابن جنّي "
الذي من مبادئه ( تقارب الحروف لتقارب المعاني ) كما مثّل له بالاشتقاق الأصغر و الاشتقاق الأكبر
والذي يعني أخذَ أصل ٍ من الأصول الثلاث للكلمة ويقلّبها إلى ستة تراكيب ترجع لمعنىً واحدمثل أصل
( ك ل م ) والذي بتقاليبه الست يدلّ على ( القوة والشدة ) ..
وهكذا بالأمثلة نجد أنّ الحروف إنْ تشابهت مخارجها وتقاربت ، التصقت معانيها وهذا ما يُعرفُ
بالدراسة المعاصرة بمفهوم " الأناكرام " ويعنون به أنْ تكون الكلمتان مكوّنَتان من نفس الأصوات / أو الخط
أو ما يقترب من مفهوم ( chiming ) وهي " وسيلةٌ للربط بين كلمتين لمشابهة أصواتهما بحيث تجعلك تفكّر في
إمكانية جمعهما " .
فلنا أنْ نفترض مثلاً أنّه عند تشابه الكلمات كبنية لغوية فإنها تمثّل بنيةً نفسية متشابهة ومنسجمة ، وتهدف
إلى إبلاغ الرسالة عن طريق التكرار والإعادة " فإذا تتابعت الكلمات المتطابقة والمتقاربة الأصوات كانت تعني
الحثّ والكف بسرعة ، أو إعارة الانتباه " وتكرار الأصوات ليس ضرورياً ولكنّه " شرط كمال " أو لعبٌ لغوي
ويرى الدكتور محمد مفتاح أنّه يقوم بدور ٍ كبير في الخطاب الشعري وأنّ القارئ للشعر يدرك أنّه لعبٌ لغوي
سواءً أكان ضرورياً أم اختيارياً ومهما يكن فإنه يجب الانتباه إليه من قبل المتلقي فيتساءل عن مغزاه ومعناه .
وفي نصٍ كـ " كيمياء الغي " يلعبُ الشاعر بالكلمات في مراوغة ٍ منه بالمتلقي لإخفاء مآربه مُجبِره - المتلقي-
على رياضة التفكير وإظهار ما أرداه الشاعر من وراء حجاب اللغة أو ماعجزت اللغة عن إيصاله بالطرق السهلة
" الفاضحة " .
І
[ يا منافينا .. نمى فينا بلد ]
" منافينا " = جمع منفى و ( الناء ) دالة على الفاعل / الشاعر .
" نمى فينا " = الفعل ( نمى ) + حرف الجر ( في ) + ( الناء ) الداله على الفاعل / الشاعر .
هنا تقاربٌ للحروف بشكل واضح جداً لاحتواء الكلمتَين على نفس الحروف وهو ما يسمّى بالبلاغة " جناساً ".
هذا من ناحية الشكل والنطق وبما أنّ " تقارب الحروف من تقارب المعاني " كما أسلفنا فإنّ لتقاربهما
بالشكل ِ تقاربٌ بالمعنى في " نفسية " الشاعر وأثرهما عليه .
بدأ الشاعر بـ " ياء النداء " وهو نداءٌ " للمنافي " التي أنتجته ونمى فيها بالتأكيد كيفما كان هذا النمو
وأيٌّ نداء ٍ عنده لا يعقبه إلا " المنافي " مع اختلاف اسمائها وصفاتها مرتبطاً فيها - أي المنافي - ارتباطاً
يجعلها أقرب إليه من حبل الوريد مطمئناً " فيها " لا " لها " فعندما تفعل " النداء " تشعر بالقرب والطمأنينة
حتى مع " التصاق " المُنادى بك ولكنّه شعورٌ بالدفء يبعثه الصوت ومن ثَمّ اسم المُنادى .
ومن جهة ٍ أخرى وبالعودة إلى ذلك " النمو " يتأكد لنا بأنّه " نفيٌ " هو الآخر إذ أنّ شاعرنا نمى يتيماً
والنمو لا يكون " نفياً " إلا عندما تولدُ يتيماً بلا أب فكأنّ " النمو " ارتبط بالـ " منافي " سواءً أكانت
تلك المنافي حسيةً / وطن أم كانت معنويةً / يُتم .
ولأنّ اليُتم حَدثٌ لا يُعوّض لن يتعالى الشاعر بخلْق ما يعوّضه ذلك فاستعاض يُتمَ الأوطان في وطن ٍ من صنعه
وإنجازه وخَلقه .. لأنّه لا يريد منّا شفقةً ليُتمَيْه الحسيّ والمعنوي .
[ يا منافينا نمى فينا بلد ] لم يكن ذلك ترفاً لغوياً بل ارتباطُ الشكل بالمعنى من إحساسٍ مؤلم ٍ حدّ الرحمة
للشاعر و عليه .
2002م