منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - الشعر والخيال
الموضوع: الشعر والخيال
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-22-2009, 06:31 PM   #1
محمد مهاوش الظفيري
( قلم نابض )

افتراضي الشعر والخيال


الشعر والخيال





رغم هذا السعار الإعلامي الهائل على سبيل الصورة المرئية إعلامياً ، والتسابق المادي الحاد ، والعنيف وراء المادة بكل أنواعها وتفريعاتها وفي نفوس القراء والمتابعين والمستمعين ، حتى عند أولئك الذين لا يحسنون قراءة الشعر بشكل صحيح ، ولا يحبذون حضوره بشكل دائم أو شبه دائم، إلا على سبيل الاستماع ، والاستماع فقط ، إما مسايرة للآخرين ، أو للترفيه عن النفس في بعض الأحيان ، رغم كل هذا ، يبقى الشعر في أولى المراتب محافظاً رونقه القديم مع اختلاف واضح في التعاطي معه . إن هذا الوضع يدل على إصرار هذه الأمة العربية ذات الهوية الواضحة والثقافة المميزة على إبراز بصمتها الذاتية الخاصة بها ، كونها أمة كلام ، وأمة بيان وبلاغة ، وشعب يعشق الفصاحة والإفصاح عن مكنون الصدور حد الثمالة ، ويرى أن التفنن في صنوف الكلام من أهم مقوماته الثقافية ، كيف لا يكون ذلك ، والعرب اسم مشتق من الإعراب ، الإعراب عن مكنون الصدور وخبايا النفوس ، أقول : رغم كل هذه الثورة التقنية الهائلة التي تجتاح العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ومن أعلى قمم الشمال إلى مجاهل الجنوب . رغم كل هذه المادية الشره والحياة التي لا تعتمد إلا على الأرقام والحقائق الموثوقة بالصور والمعتمدة على التقارير والأدلة والأرقام والرسومات البيانية ، يبقى الشعر في مكانته المعهودة السابقة ، وإن تناثرت بعض الأقاويل هنا وهناك من أن الرواية أصبحت ديوان العرب الجديد ، والشعر لا يستقيم ما لم يكن وراءه خيال يرفده ويقويه ويشد من أزره , لذا يظل الخيال حاضراً حضوراً بيناً ، ولن يكون هناك شعر ، ما لم يكن هناك خيال يرفد هذا الشعر بكل طاقاته التأملية وقدراته التخيلية التي تصنع منه شعراً يستحق القراءة . هذا الخيال الذي يتجاوز بأصحابه كل حدود الخيال ، للدخول في عالم الميتافيزيقيا الغارقة في التأمل . رغم المجازر والحروب واستباحة كرامات الدول ووأد حريات الشعوب ، والقتل المنتشر على الهوية هذه الأيام ، يظل هاجس الروح ، وحب التطلع إلى المستقبل المنظور أو غير المنظور ، القائم على الخيال والتأمل ، والإستغراق في عوالم ما وراء الطبيعة ، يفرض نفه على الشعراء ، وعدد لا بأس منه متذوقي الأدب والفن ، والشعر على وجه الخصوص .
إن المتأمل في إنسان هذا العصر ، يجد أن الروح الشاعرية لديه قد إضمحلت ، وضمر لديه الإحساس الإنساني الخلاق ، وأصبح إنسان هذا العصر مثل الآلة ، ليس له قيمة في حد ذاته ، إلا بالقدر الذي يمكن الإستفادة منه ، وهو - أي الإنسان – انقلب على إنسان الأمس وانسلخ عنه ، لأن إنسان الأمس كان متعلقاً بأمور غيبية كثيرة ، كعبادة الله سبحانه وتعالى حق العبادة ، أو التعلق بالآلهة والأوثان ، وماشابهها من أمور غيبية لا مرئية من الصعب تصورها. أما إنسان اليوم ، فهو لا يعبد إلا المادة ، ولا يركع إلا للمال ، ولا يؤمن إلا بالاقتصاد ، أي أنه يرى ربه ومعبوده الجديد شاخصاً أمامه كأرصدة البنوك والسيارات ، وغيرها من ماديات العصر ، وعلى هذا الأساس أصبح يرى معبوده أو يكاد يلمسه أو يركبه أو يضعه في جيبه ، أي أنه صار يتعامل معه من باب الفائدة والربح والخسارة .
وحتى لا يشطح فكر بعض القراء ، حول حساسية الأمور الغيبية ، أقول : إن الحكايات والأساطير التي كنا نسمعها عندما كنا صغاراً من الأمهات والجدات قبل النوم لم يعد لها ذلك البريق هذه الأيام ، بل لقد ذهبت مع من ذهب من كبار السن ، لأن أبناء هذا الجيل ، جيل الانترنت والبلاي ستيشن الذين أعملوا عقولهم في التكنولوجيا وتفننوا في مهارات التقنية الحديثة ، لم يعد " لـ " تريترا أم ترتور " وحمارها الأعرج ، والأطفال الذين تأخذهم في رحلة العذاب الطفولي ، الذين ننام ونشبع نوماً ، وفي هذه اللحظة التي أكتب بها هذه السطور لم نقف على نهاية نختتم بها رحلتها الأزلية ، أقول : إن هذا الجيل لم يعد يهتم بمثل هذه الحكايات الشعبية الجميلة ، لأن عنصر التخيل إضمحل لديه ، بالقدر الذي اتسع أفقه العلمي ، وتطوره التقني الفني والمهاري ، والشعر خيال لا يعترف بالحدود والأطر الثابتة المحددة بسيجات معينة ، ترسم ملامح الأشياء بشكل ثلاثي الأبعاد ، أما الخيال التأملي ، فلا مجال له عندهم .
الشعر حدس يقوم على الخيال، لا فلسفة تعتمد على المنطق والإثباتات العقلية ، ومن هذا المنطلق خلط كثر من الناس بين الشعر والمنطق ، ومادام الشعر خيال أو نابع من الخيال ، انسحب هذا الخلط على الخيال كذلك . المنطق طريق العقلانية ، والخيال سبيل التأمل . والمنطق يعتمد على حقائق ومسلمات وبديهيات ، بينما الخيال فضاء ممتد لا يمكن الإحاطة به ، والمنطق له حدود يقف عندها ، أو الوصول إليها ، أما الخيال ، فلا يؤمن بالحدود و لا يعترف بالحواجز ، ومن الخيال ما هو فوق الخيال ، وأعني به عالم ما وراء الطبيعة " الميتافيزيقيا " ويمكن الاستفادة من التأمل الفلسفي في الشعر ، إذا كان المحرك الأساسي له الخيال ، وعندها يكون الشعر توق فلسفي روحاني يهفو إلى حياة روحية سامية متأملة في ملكوت الخيال الإنساني ، بعيداً عن شوائب الحياة المادية وأنانيات العصر .
هذا الكلام ، يقودنا إلى أن الشعر روح لا عقل ، لأن العقل إذا هام ضاع ، وقد يدمر صاحبه ويدمر العالم من حوله ، أما الروح إذا هامت ، فإنها ستبحث عن الجمال . العقل قد يهيم في البحث عن الحقيقة ، أما الروح فهي تنشد الجمال .
الطفل حينما يولد ، أو حينما يكبر ، إلى أربع أو خمس سنوات يكون هاجس الخيال حاضراً لديه بقوة ، بل إن العقل لديه مغيب أو شبه مغيب ، فنجد أن الخيال عنده قوي ، وحاضر معه بقوة ، ويذهب به الخيال كل مذهب ، ويأخذه إلى عوالم لا يدرك حقيقتها أحد ، أما العقل فلا ينمو إلا بالمعرفة والتعلم . وعلى هذا الأساس نرى تغنى عدد من الشعراء ببراءة الأطفال، لأن هذه البراءة ، هي القصيدة الحلم التي لم يكتبها أحد حتى الآن .
الشعر الحقيقي انفعال ثم إمكانية توظيف هذا الانفعال في قال شعري معين . والنص الأدبي الرائع ، ولاسيما الشعري منه ، هو ذلك القادر على إيقاظ الروح المخبوءة في نفوس الآخرين وإشعال حرارة الحياة فيهم . والأدب الذي يرضخ للحدود والموانع والحواجز لا يعد أدباً ، إن الأدب المحترم هو الأدب المنطلق الحر في فكره وإبداعه وفي طريقة كتابته . والكتابة الفوتوغرافية عند الناس والمجتمع لا تعد إبداعاً ، لأنها خالية من المشاهد النابضة الحية المفعمة بالروح ، و بإمكان أي مصور يعمل في أي محل للتصوير ، القيام بهذه المهمة خير قيام ، لأن هذا النوع أغفل وظيفة الأدب العظيمة ، وهي تسليط الضوء على خبايا النفوس ، وتشخيص الأشياء الجامدة ، وزرع الحياة فيها . وليس غايته تحقق مكاسب إنسانية ، أو دفع قيم أخلاقية للشيوع ، أو المساهمة في البحث عن حلول لمشاكل الناس ، أو القضاء على أزمة الفقر ، بل غاية الأدب ، والشعر على وجه الخصوص ، توسيع الفضاء الروحي لدى الإنسان ، والإرتقاء بذائقته الفنية ، ومحاولة رفعه عن الأرض إلى السماء ، واختراق الأجزاء العلوية ما أمكن ذلك الإجراء ، والنص الشعري لا يستطيع تحقيق أي غرض مرجو منه ما لم يكن ممتعاً ، وفيه نفس إبداعي واضح ، يرتقي بالذائقة الفنية عن سفاسف ما يُطرح باسم الشعر ، وعالم الشعر ، والعمل الأدبي لا يصل لهذه الدرجة من النضج ، ما لم يستطيع كاتبه سكب شئ من روحه في هذا النص أو ذاك .

 

محمد مهاوش الظفيري غير متصل   رد مع اقتباس