منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - محمد عابد الجابري
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-29-2006, 09:42 PM   #13
سلطان ربيع

كاتب

مؤسس

افتراضي




البابا وابن حزم : القدرة الإلهية والضرورة العقلية
محمد عابد الجابري


في المحاضرة المثيرة التي ألقاها الباب بينديكت السادس عشر، وتعرض خلالها لمكانة العقل في الإسلام، جاء قوله: "وفي هذا الإطار يستشهد خوري بالمستشرق ر. أرلنديز R. Arnaldez الذي ذكر أن ابن "حزن" (ابن حزم) قد بالغ في هذا الأمر إلى درجة أنه يصرح أن الله ليس ملزما بتنفيذ ما يعد به (العبارة الإسلامية : لا يجب عليه تنفيذ وعده ووعيده كما سنبين)، وأنه لا شيء يلزمه على التصريح لنا بحقيقة ما يريد (بالعبارة الإسلامية : "يقدر على الكذب"). فإذا أراد لنا الله أن نعظم الأصنام، فليس لنا إلا أن نخضع لإرادته (وهذا الذي ينسبه هنا لابن حزم خطأ، كما سيتضح لاحقا).

في القرآن آيات يفيد ظاهرها معنى وأخرى يفيد ظاهرها معنى مختلفا وأحيان مناقضا. وقد ارتأى كثير من المتكلمين أن تجاوز هذا المشكل يكون برد المتشابه من الآيات إلى المحكم. لكن قد يحدث أن تتدخل ميول الفرقاء، فما يعتبره فريق محكما يعتبره فريق آخر متشابها.

من ذلك مثلا أن المعتزلة يعتبرون قوله تعالى "ليس كمثله شيء" (الشورى 11) محكما وما يتناقض معه عدوه من المتشابه. ولذلك قالوا بالتنزيه المطلق للذات الإلهية فنفوا عنه تعالى جميع الصفات التي فيها تشبيه بالإنسان سواء المعنوية منها كالعلم والإرادة أو الحسية منها كالسمع والبصر الخ، وقالوا مثلا هو عالم بذاته لا بصفة زائدة عليها أو هو عالم بعلم وعلمه ذاته. وفي إطار هذا التنزيه المطلق قالوا إنه تعالى الله منزه عن جميع أشكال النقص. وبما أن فعل القبيح (كالظلم والكذب الخ) نقص فالله منزه عنه وبالتالي لا يفعل إلا الحسن والصلاح وجوبا، مستندين في ذلك إلى آيات من القرآن كثيرة مثل قوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت 46)، وقوله: "وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف 49)، وقوله: "اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" (البقرة 51. تكررت هذه الآية عدة مرات)، وقوله: "كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (الأنعام 12) الخ ومن هنا عبارتهم "يجب على الله فعل الصلاح"، وبعضهم قال: "الأصلح".

وقد رد عليهم خصومهم من أهل السنة والأشاعرة والظاهرية بالاحتجاج بآيات كثيرة يصف تعالى فيها نفسه: بـ: "عليم"، "حكيم" "سميع"، بصير" متكلم" الخ، وأنه: "عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، وأنه "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء 23).

والذين يعترضون على القول بأن الله قادر على "كل شيء"، يقولون إن ذلك يستتبع أن يكون قادرا على الظلم والكذب. ويضيفون: إنه ما دام قادرا على الظلم والكذب فلما الذي يضمن لنا أنه لم يفعلهما الآن، أو أنه لن يفعلهما في المستقبل؟

هذا اعتراض ذكره ابن حزم على لسان الخصم، ليرد عليه ويفنده، وليس هو رأيه كما في خطاب البابا. وفيما يلي نص كلامه، قال: "قال ابن حزم: "فإن قال قائل: فما يُؤَمِّـنُـكم، إذْ هو تعالى قادر على الظلم والكذب والمحال، من أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ولا تصح، ويكون كل ما أخبرَنا به كذباً"؟

يرد ابن حزم قائلا: "وجوابنا في هذا هو أن الذي أَمَّنََنا من ذلك ضرورةُ المعرفة التي قد وضعها الله تعالى في نفوسنا، كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين، وأن المُميِّز مُميِّز، والأحمق أحمق، وأن النخل لا يحمل زيتوناً، وأن الحمير لا تحمل جمالاً، وأن البغال لا تتكلم في النحو والشعر والفلسفة، وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة".

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن قول ابن حزم بالضرورة العقلية التي ركبها الله فينا كضامن لليقين، هو عين العقلانية. فالعقل هو الذي يبرهن على وجود الله من خلال تأمل الموجودات وبديع نظامها إذ يستنتج من ذلك أنه لا بد أن يكون وراءه صانع حكيم، والعقل هو ضامن اليقين لأن اطراد نظام الكون واستقلاله عنا دليل على أن الله لا يخدعنا ... فما يعبر عنه البابا بـ "العقل لا يتنافي مع طبيعة الله" يعبر الفكر الإسلامي عنه بالقول: إن سنن الكون لا تتنافى مع قواعد التمييز التي ركبها الله في عقولنا، (وبعبارة ابن رشد: "ليس العقل شيئا آخر غير إدراك الأسباب")، وللقارئ أن يحكم بنفسه: أي القولين أكثر عقلانية؟

وأما ما نسبه البابا إلى ابن حزم على لسان المستشرق أرلنديز، ورواية عن خوري، فهو خطأ في الفهم أو النقل أو فيهما معا. ذلك أن ابن حزم لم يقل ولا يمكن أن يقول: "إذا أراد لنا الله أن نعبد الأصنام، فليس لنا إلا أن نخضع لإرادته". ذلك أن الله يقول: "وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران 80).

ليس من الممكن أن يقول ابن حزم : "إذا أراد لنا الله أن نعبد الأصنام، فليس لنا إلا أن نخضع لإرادته". أما ما ذكره ابن حزم فهو حكاية عن قوم قالوا للمعتزلة: إذا كان الله لا يفعل إلا الصلاح، كما تقولون وبالتالي لا يشاء الكفر لعباده، فكيف تردون على من قال إن الله صرح بأنه قد يشاء أن يعود الناس إلى الكفر، وذلك بدليل قوله تعالى: "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (حتى ولو كنا كارهين لذلك؟)، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ... " (الأعراف 88-89). فقوله "إلا أن يشاء الله" يفهم منه المعترض أن الله يمكن أن يشاء رجوعهم إلى الكفر؟

ولما ذكر ابن حزم ذلك جاء بجواب كان قد رد به بعض المعتزلة على ذلك الاعتراض فقالوا لا يمكن أن يرد الله المسلمين إلى عبادة الأصنام: "إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة‏".‏ وفي هذه الحالة لا يكون الله قد شاء لهم الرجوع إلى عبادة الأصنام والكفر، بل يكون قد شاء المساواة في التعظيم بين الحجر الأسود، وبين الأصنام. والتعظيم لا يعني العبادة، والمسلمون يعظمون الحجر الأسود لا بمعنى أنهم يعبدونه، بل يعظمونه لما فيه من معنى الرمز، إذ يعود بهم إلى نبي الله إبراهيم الذي وضعه في موضعه كنقطة البدء في الطواف.

ويعلق ابن حزم على ذلك بالقول إذا أمرنا الله بتعظيم الأصنام كما نعظم الحجر الأسود والكعبة، فليس معناه أنه أمرنا بالكفر وبالرجوع إلى عبادة العرب للأصنام، بل معناه أنه أمرنا بما به يزيد إيماننا، فلو أمر المسلمين بتعظيم الأصنام فإن ذلك لن يتناقض مع أمره لنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة بل سيكون قد زاد في إيماننا بامتثالنا لأمره. ذلك، يقول ابن حزم : "أن الله لو أمرنا بذلك لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً على الإيمان وتزايداً فيها". فيكون الحال كما "قال تعالى‏:‏ ‏"‏ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً‏"‏، والمرض المقصود هنا هو الكفر، والمعنى أن الله شاء لهم الزيادة في الكفر كما شاء لهم الكفر. إن مشيئة الله عند ابن حزم سارية، سواء تعلق الأمر بإيمان من آمن أو كفر من كفر أو ارتداد من ارتد" (الفصل 2 ص 186 وما بعدها مكتبة خياط بيروت د. ت).

وإذن، فالفرق كبير جدا، إلى درجة التعارض والتنافي، بين ما نسبه البابا إلى ابن حزم، وما قاله ابن حزم في حقيقة الأمر. ونحن نأخذ على البابا مثل هذه الأخطاء ليس لأنه تعمد الوقوع فيها للنيل من عقيدة الإسلام، فنحن لا نحاكم النوايا كما أسلفنا، وإنما نعجب لكونه يقتبس من مصادر غير موثقة ولا مختصة أشياء تسيء إلى علاقته وعلاقة الفاتيكان بالإسلام. في الوقت الذي ختم فيه محاضرته بالدعوة إلى حوار "عقلاني" بين الأديان".

أعتقد مخلصا أنه قبل أن يكون هناك حوار بين الأديان يجب أن يتعرف أصحاب كل دين على حقيقة دين محاوريهم. هذا علاوة على أن يعرف أصحاب كل دين دينهم، معرفة ترتفع إلى المستوى المطلوب. ذلك أن الحوار مع الجهل ينتهي حتما إلى عداوة: وقديما قيل "الإنسان عدو ما يجهل".

 

التوقيع

[OVERLINE]"عمر الرجل كما يشعر، وعمر المرأة كما تبدو "

مثل فرنسي
[/OVERLINE]

سلطان ربيع غير متصل   رد مع اقتباس