منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - مَحمود درويش , و يَكتَمِلُ الغِيابْ ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2008, 04:21 AM   #1
د. منال عبدالرحمن
( كاتبة )

افتراضي مَحمود درويش , و يَكتَمِلُ الغِيابْ ...


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


[ و زرعتُ أزهاري

في تربةٍ صمّاءَ عاريةٍ

بلا غيمٍ ,, و أمطارِ

فترقرقت لما نذرتُ لها

جرحاً بكى برموشِ أشعاري ..]

أيّها الرّاحلُ هناك , توقّف فمنَ [ الخليجِ إلى المحيط لا زالوا يعدّونَ الرّمال ] ,

توقّف فما زالَ في جسدِ زهرِ اللّوزِ جرحٌ لم يفور , ما زالَ في زهرِ جسدِ اللّوزِ جرحٌ لم يغور ..

ما زالَ هناكَ أمنية , تنقلُ صوتكَ إلى القلوب الغافية ,

تحملُ حنجرتكَ المكرّسةُ لأغاني الوطنِ في أفواهِ الرّصاصِ إلى الأيادي الثّملةِ بالخيانة ..

توقّف ..

لا زالَ هناكَ [ أحمدٌ ] غافٍ على رصيفِ الجرحِ يبكي , يُطلقُ من فوهةِ عينيهِ قنبلةً تُسْقِطُ في كلِّ يومٍ وجهاً عارياً ,

و يسمعُ قلبكَ ينبضُ ,

فيتلو و أمامَ يديهِ غصنُ ليمونٍ [ سقطَت ذراعكَ فالتقطها , و اضرب عدوّكَ لا مفرّ ] ..

توقّف لم يبقَ في بيروتَ ألفٌ و باء , و على رفوفِ دمشقَ تصطفُّ العصافيرُ و تغترب ,

و القدسُ تئنُّ و في يديها [ تتكسّرُ السّماءُ على رغيفِ الخبز ] ,

و بغدادُ تنعي حزينةً جسدَ الحلمِ القتيل ,

و [ لا جديدَ لدى العروبةِ ] ..

يا محمود , لِمَ ترحلُ و تتركُ قصائدَ الوداعِ تائهةً على فمِ عاشقٍ يحلمُ بحمامةٍ تطيرُ و لا تخاف ,

تبكي و تجمعُ دموعها في سلّةٍ من قبلاتٍ لم ينفيها وطنٌ لأجلِ حزنٍ وجوازِ سفر ؟

يا محمود , بعضُنا باقٍ بعدكَ و كثيرنا رحلَ قبلكَ ,

هويّاتنا و انتماءاتنا و بعضٌ من دمنا قد سبَقنا في ريحِ الغيابِ ,

و بقينا ننعي قيودَنا الموؤدة و حريّةً تائهةً على شكلِ قلم ..


أيّها العصفورُ المناضلُ في شظايا أمّةٍ فقدّت بليلةٍ وشاحها الذّهبي,

و التحفت بقصيدةٍ تمحو خيبةً أورثها عقوقٌ بالأرضِ , بشبرٍ من الأرضِ ,

بذرّةٍ من ترابِ أرضٍ بلونِ دمِ النّوارسِ تحملُ في ثغرها قضيةً و جرحاً و أمّاً ثكلى , لا تزال عندَ عتبةِ البابِ تنتظر ..

عشرونَ عاماً كانَ أحمدُ العربيُّ يرحل , و عشرونَ عاماً , بقيتَ تحملُ جسدَهُ الصّغير , ليصرخَ في وجهنا :أنتم من انتخبتمُ المقصلة ,

لينثرَ فوقَ يدينا غيثَ دمهِ فترتجفَ قبلَ المصافحةِ و تتساقط ..

من سيبقى الآنَ و قد رحلت , و ماذا نفعلُ بأجسادِنا المتضائلة أمامَ جرحِ أحمدٍ ,

و وشاحِ [ صبرا ] المُنتَهَك , و جناحِ محمّد الدّرة الّذي يريدُ - فقط - أن يعودَ إلى البيتِ [بدونِ درّاجةٍ و قميصِ جديدٍ ]؟

ماذا سنفعلُ و في كلِّ يومٍ تتهالكُ مآقي اللّغةِ على عتباتِ الحروفِ المخبّأةِ في طبولِ الفراغِ و فوقَ أرصفةِ المنفى المستوطنِ في الجسد ؟

علّمتنا أن للدّمعِ جذوراً , و استبقيتَ في عينِ أمّهِ دمعتينِ لأجلِ أخٍ أو صاحبٍ , قد يكونُ أنت ..

و كأنّكَ كنتَ تعرفُ أنّنا سنبكيكَ و نقتلعُ الدّمعَ من جذوره ,

أننا سندمعكَ و يقتلعنا جذرُ كلماتِكَ من بكائنا , لنردّدَ صوتكَ العربيّ الضّاربَ في عمقِ الحزنِ الموشّى بقصبِ الحبّ .. و

[ عزاؤنا الموروث :
في الغيماتِ ماء ,
و الأرض تعطشُ ,
و السّماء تروى ,
و خمس زنابقٍ شمعيّةٍ في المزهريّة ]


أيّها العظيمُ , عمركَ باقٍ إلى الأبدِ في اللّغة , و لكنّها ستبكيكَ ,

ستبكي حاءكَ و الميم , و سترثي لحالِ قصيدةٍ نذرت لقافيتها دالكَ الهاربةَ من منبعِ الضّوء ,

ستبكيكَ بيّاراتُ اللّيمونِ و حقولُ القمحِ و كرومُ العنبِ و أشجارُ التّفاحِ و مزارعُ الزّيتونِ وغاباتُ السّنديانِ و الأرزِ و واحاتُ النّخيل ,

ستبكيكَ نوارسُ البحر و سنونواتُ المدينةِ و قمرُ الشّتاءِ و المطرُ في صلاةٍ أخيرة , و لوركا إذ يودّعُ تراتيلَ الصّدقاتِ في اسبانيا و يحملُ

[ آخرَ الأخبارِ من مدريد :
شبعَ الصّابرُ صبراً ] ...

أيّها الباقي في حناجرنا , تُشعلُ القصيدَ في أفواهِ دمنا ,

و تمنحُ بروحكِ إذ تحفّها ملائكةُ النّورِ سنابلَ القمحِ القديمِ طواحينَ الأفواهِ الصّدئةِ بالغيابِ و الرّحيل ,

فتنتثرُ اللّغةُ فوقَ مُدنِ الكلامِ كخبزِ غيمةٍ حُبلى بتلاواتِ الأرواحِ المكلومة ..

أنتَ أيّها المهاجرُ في الصّبحِ البعيدِ , على زندِ قصائدكَ ستولدُ ألفُ ريتا و تغفو كجفني سماءٍ تكتحلُ المساءَ و تودعهُ ثغرها الصّغيرَ سرّاً لبندقيّة ..

الآن إذ نصحو , سنتذكّر [ طريقَ دمشق ] و [ قصيدةَ الخبزِ ] و [ الرّملِ ] و [ الأرض ] ,

و سنحملُ [ عبء الفراشات ] على أكتافِ حطّابٍ و عاشقة ..

الآن إذ نصحو , سنذكركَ و في عينينا أمنيةٌ أن يبقى هذا الدّرويشُ العربيُّ , حنجرةَ الأجيالِ القادمةِ ,

و يدهمُ النّاطقةُ بحقِّ الدّمِ الغائرِ في الأرض ,

أن يبقى حبّهم المتّسع كحقولِ الذّرةِ و غزلهمُ الممزوجَ بالأزهارِ و البارود ,

و أطفالهم البريئةُ الّتي تكتبُ على جدرانِ ضميرهم كلَّ يومٍ حكايةَ الوطنِ الجريح ..

:

في قلوبنا باقٍ , و إلى رحمةِ اللّهِ مرتحلٌ يا محمود ..

 

التوقيع

و للحريّةِ الحمراءِ بابٌ
بكلِّ يدٍ مضرّجةٍ يُدَقُّ


التعديل الأخير تم بواسطة د. منال عبدالرحمن ; 08-11-2008 الساعة 04:37 AM.

د. منال عبدالرحمن غير متصل   رد مع اقتباس