على الكرسيّ المجاور لها سمعته يردد :
اللهم يا بديع السموات والأرض , ترفّق بها , فوحدك تعلم مدى حبي لها , اللهم ارزقها من لدنك رحمة تتساقط على وجعها رطبا جنيا .
كانت عيناه الدامعتان , تسلبان قلقها نحو تلك الغرفة المجاورة لغرفة أختها , وعندما علا صراخ طفلٍ صغير من
تلك الغرفة , تهلل وجهه بالفرح , و تساقطت انهار دموعه تشكر الله بصوتٍ عال . ثم أخرج من جيبه ورقة نقدية و دسّها في يد الممرضة التي جاءت لتخبره بأنه رزق بمولود ذكر , بعد أن بادر هو بسؤالها : وكيف حال زوجتي ؟
في داخلها , كانت هي تغبط تلك الموسومة بالوجع في تلك الغرفة , و التي تحتضن الآن فرحة زوجها , و ابنها الذّكر .
في الحقيقة كانت هي تغبط أختها أيضاً , رغم خوفها عليها , واتهامها لها بالغباء , فهذه هي ولادتها الخامسة ..هي تحاصر نفسها بالأطفال و تقيّد حريّتها و جمالها بهم .
ولكنّ أختها كانت تضحك دوماً , و تخبرها بأنّها حاملٌ من جديد .
بعد قليل أخبرتها الممرضة بأن أختها أنجبت بنتاً وأنها بخير , وبعد أن اطمئنت عليها تركتها مع زوجها و ذهبت لمكتبها فالمدير لم يسمح لها بأكثر من ثلاث ساعات اجازة . عادت للعمل , جلست وراء مكتبها و انهمكت في الملفات المؤجلة أمامها و لكن صورة ذلك الرجل لم تفارقها , ولا صورة عينيه الدامعة .
في المساء مدعوّة هي للعشاء مع وفدٍ من دولةٍ مجاورة , يقول مديرها أن هذا الاتفاق سيجر للشركة أرباحا كثيرة
وان عليها و باقي محامي الشركة الحضور , للإشراف على وضع الشروط المشتركة للعقد .
متعبٌ هذا المساء , ككلِّ مساءاتها .. ستذهب للعشاء و قد تعود للمنزل منهكة و لكنها ستنام وحيدةً ككلَِ ليلة و ستملأ وسادتها ببحور الأرقِ الفائض في داخلها , وقد تسمع موسيقى باخ المفضلة لديها فتزيد ألمها بدلا من أن تزيح التعب الساكن عقلها .
منذ سنواتٍ طويلة , بعد أن رحل عماد وترك الزهور البكر التي تفتحت في قلبها له تقارع الذبول .. وهي وحيدة
رحيله أكسبها الجفاء في تعاملها مع الآخرين , كلهم صاروا في عينيها عماد ..
كان هذا ما يجعل توددها لرجل ما أمرا مستحيلا , و مجرد تفكير أحدهم بالارتباط بها ضربا من الجنون .
ورغم أن الوحدة أرهقتها ونالت من أنوثتها الكثير , إلا أنها لا تستطيع إلا أن تكون هكذا , كتلة من لهب مخبأة تحت رماد القسوة .
رائحة الدفء في منزل أختها , صوت ضحكات أطفالها , هموم تأمين حاجياتهم , نكهة الحب في طعام أختها ..
كل ذلك كان يملأ داخلها بالدمع ..
وعندما زارت صديقتها سماح آخر مرة بعد غياب طويل جدا , فاجأها ذاك التورد الذي ملأ وجهها لتعلم أنها حامل في الشهر الرابع ..
هي الآن توقن بأنها تحتاج إلى رجل , و لكن كبرياءها , و عماد كانا دوما في المنتصف !
لم يوقظها من أفكارها تلك إلا صوت الأستاذ عرفان الذي أخبرها بانتهاء الدوام وبأنه سيمر مساءا ليأخذ الجميع بسيارته إلى العشاء في الساعة السابعة .
في المساء كانت تجلس هي إلى جانب الأستاذ عرفان كبير محامي الشركة , و بجانبها مديرة العلاقات العامة للشركة الصديقة .
تحدثت هي كثيرا , عن المشروع الجديد , وعن إمكانيات الفشل و أرباح النجاح .. و كانت عيناها تتوقفان كل مرة تجول بهما على مستمعيها عند ذاك الرجل , الذي تم تعريفه بأنه المدير المالي للشركة الصديقة .
كان يستمع إليها وكأنه يحتضن شيئا ما , كانت تشعر بأنه قريب منها حدّ استراق النفس , ولكنها تابعت بجفاء كعادتها .
في نهاية اللقاء و بعد أن تم توقيع العقود , قال لها : هذا رقم هاتفي , أتمنى أن أراكِ قبل سفري بعد غد .
ولم ينتظر ليسمع إجابتها , صافحها بحرارة , و انصرف مع الآخرين .
لم تدري ماذا تفعل بيدها المحترقة , و قررت أن ترمي بتلك الورقة اليتيمة و تخلد للنوم بمجرد وصولها البيت .
ولكنها لم تفعل , لم ترمي الورقة و لم تنم , و لم تتوقف عن التفكير .
في الصباح خرجت إلى العمل , بقي همسه عالقا في أذنها , وعند استراحة الظهيرة وجدت يدها ترفع سماعة الهاتف و تطلبه ...
وجاء صوته كالمطر : أهلا بكِ , هل لي بان أراك اليوم بعد انتهائك من ا لعمل
ولم تدري سوى أنها قالت نعم .
وسافر هو بعد أن ترك في قلبها ذاك اللقاء و الكثير الكثير من الأمل و الحياة , وخاتم خطبة زيّن شعورها
, سافر و وعدها بأنه سيعود بعد أسبوع بعد أن يتقدم بطلب إجازة زواج .
ولم يعد , مر أسبوع و آخر .. و لم يعد ..
كانت هي توقن بأنه سيعود , و بأن غيابه ما هو إلا طعنة وقتٍ فقط في خاصرة أملها العائد للحياة من قبور الجفاء القاتل .. كانت تشعر بان عماد رحل من عينيها للأبد , وانه لن يعود بزيّ رجلٍ أعاد النبض إلى أوردتها .
ولكنه لم يفعل ....
بعد شهر كانت هي ترقد صامتة في مستشفى الأمراض العصبية , تطالع السقف المدوّر كخاتمها , و على يدها لفّت برقية حملت خبر موته .