منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - " الأعزل ".. حمزة الحسن
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-30-2006, 11:58 AM   #3
نور الفيصل
( كاتبة )

افتراضي


1

كان أول من عبر النهر في ذلك الصباح هو يوسف . لقد عبرنا النهر إلى الغابة. غابة كثيفة. غابة دغل وصفصاف وحلفاء وأحراش. كنت أرى الغابة عبر النهر. كنت أراها كسر من أسرار كثيرة تدور ولا أفهمها.لكن هذا الصباح لامست قدماي أرض الغابة ، يا للفرح.



وقفت مبهورا وخائفا. كنت أخاف أن أضيع. لكن وجود يوسف معي يكفي لكي لا أضيع. كان حارسا لهذه الغابة. كان وحده يدير هذه القطعان السود وهي تلمع تحت الشمس مبللة وهي تعبر النهر نحو الغابة في ذلك اليوم المشمس من أول ايام الصيف. تلك هي عادتنا في بداية كل ربيع: الذهاب إلى البراري المعشبة كي ترعى القطعان إلى ان يبدأ المطر وتظهر غيوم الشتاء فنعود إلى البلدة.



كان يوسف قد وضعني أمامه على ظهر جاموسة يحبها كثيرا اسمها وردة هادئة لا تشبه بقية القطعان لا في قرونها العالية الجميلة المهيبة ولا في مشيتها البطيئة. كانت بالنسبة ليوسف أكثر من حيوان. أول خطوة على أرض الغابة جعلتني اشعر بشيء غريب لا يشبه أي شيء آخر أعرفه من قبل. الخوف نفسه توارى قليلا خاصة والدنيا نهار، وحل محله شعور بالزهو والدهشة كما لو أنني أمشي لأول مرة على أرض.



هذه هي الغابة التي طالما حلمت بها وسمعت حكايات عجيبة عنها. هذه هي الأشجار العملاقة التي يقولون انها تتكلم في الليل وتفعل أفعالا لايفهمها كل البشر. هذا لايحدث إلا في الليل. في أعماق الليل. نظرت إلى الضفة الأخرى من النهر حيث البلدة تقع هناك وقطيع آخر يتهيأ للعبور. كنت أسمع صيحات ونداءات تأتي عبر النهر صيحات أليفة لأن بعض القطعان تعاني من متاعب العبور خاصة الصغيرة منها. وكانوا قد إحتاطوا لكل شيء بما في ذلك غرق العجول الصغيرة.



رأيت عبر الشمس ورذاذ الماء والدي يعبر على ظهر جاموسة. رأيت كذلك خنجر ثجيل يبرق ناقعا بالماء والشمس. ثجيل هذا أكثر ما يخيفني فيه عينه الحمراء وفمه المائل المعوج نحو اليسار والذي يغطيه دائما باليشماغ. ثجيل يعبر لوحده مع قطيعه. هكذا هو دائما وحده في كل مكان نذهب إليه أو نعود منه. قليل الكلام ولا يشبه أحدا. لا يشبه إلا نفسه.



بعد ذلك توالى عبور القطعان حتى إكتمل العبور وصرنا جميعا على أرض الغابة التي يقولون ان أحدا من قبل لم يدخلها أو دخلها ولم يخرج. الغابة إسمها ربيضة. هذا الإسم أعرفه من زمان. رأيت مدهوشا ان الرجال إنتظموا في صف واحد وصلوا بخشوع خلف يوسف أكبر القوم سنا وخبرة. لم يطلبوا مني أن أصلي فصمت. بعد الصلاة سمعتهم يرددون كلمات وأدعية لا أفهم منها شيئاً لكنها كانت عن المطر والعشب والأمان. كانوا قد إعتذروا لها، للغابة، لأنهم داسوها بأقدامهم لكنهم ذكروا لها ان ذلك من أجل الخير. حين هبت ريح خفيفة عبر النهر وإهتزت رؤوس الأشجار برقت عيون الرجال ببريق حاد وعلى وجوههم علت بسمة فرح وإمتنان: باركتهم الغابة.



اقترح يوسف أن نقدم ذبيحة وهو تقليد شائع منذ قديم الزمان بالنسبة لسكان ضفاف نهر دجلة الذي إختلطت فيه عبر العصور الدماء والطين والجثث والشعر والحب والحكايات. نهر مقدس يسقي هذه المناطق بالماء والويلات والأفراح والفواجع. وافق الجميع. وقع الإختيار على عجل صغير فذبحوه وهم يهللون ويكبرون ويرتلون كلمات ووجوههم مكسوة بطين النهر ومسحة من الخوف الممزوج بإيمان مبهم لكائنات غير مرئية لدرجة انني تصورت ان اشياءً كثيرة ستقع هذه الليلة أو بعدها.



تلك كانت أول ذبيحة على أرض ربيضة العذراء كما يقولون بفرح وهم ينفضون الطين الذي جف من ثيابهم المرفوعة حتى الركب المتسخة والكثيرة الخدوش. لم تكن هناك ركبة واحدة بلا خدش ولا يد أيضا ومن العيب أن تكون.



بعد الصلاة والذبيحة أقاموا موقدا كبيرا ووضعوا اللحم فيه بعد أن جلبوا أول الأغصان من الغابة. تلك كانت اول أغصان تحترق هذا الصباح. هذا اول لحم يشوى وأول كائن يذبح وأول مخلوق يصلي. يقولون ان الأشجار هنا تصلي. ربما مخلوقات أخرى سنتعرف عليها من بعد.



لم تعبر معنا ولا إمرأة عدا فاطمة زوجة ثجيل. بقية النساء، ومعهن أمي، وقفن عند حافة النهر ملوحات بأيديهن وعدن إلى المنازل في اطراف البلدة. فاطمة لم تكن كبيرة ولا صغيرة. كانت إمراة. هي الوحيدة التي تقترب من ثجيل وتتحدث معه إضافة ليوسف. فاطمة شجاعة ولا تخاف كبقية النساء من ثجيل. أنا أخاف منه. ربما بسبب عينه وفمه المعوج وخنجره الذي لا ينزعه حتى في النوم، تقول فاطمة. ينام وخنجره في حزامه.



شعرت ان هذا الصباح جميل ويختلف عن كل الصباحات السابقة. شعرت أيضا بالزهو لأنني الطفل الوحيد الذي عبر النهر ورأى الغابة.كم هي كبيرة هذه الغابة ومدهشة.



بدأ الرجال يأكلون وفاطمة توزع عليهم الطعام. لكنهم وقبل تناول الطعام مدوا أنظارهم نحو هامات الأشجار وربما نحو السماء الزرقاء البعيدة صامتين ، متمتمين أدعية بصوت خافت متهدج. حين بدأ يوسف الأكل واصل الجميع تناول الطعام إلا فاطمة التي ركعت في مكان بعيد تصلي وهي تنشج.قال يوسف بخشوع: إنها تنشد بركة الأرض ودعوتها مستجابة لأنها إمرأة. انها، اضاف يوسف، تصلي للأرض.



بهذه الصورة مرت لحظات هذا الصباح جديدة، وحارة، وباهرة على هذه الغابة العذراء. بعد الطعام نهضوا جميعا للعمل. كان أول شيء بدأوا به هو إقامة مساكن لهم بين الأشجار. توزعوا بحثا عن الأخشاب وعيدان الحلفاء والدغل الكثيف الذي سيكون سقوفا يمزجونها بالطين كما تعودت أن أراهم في أماكن أخرى. كل واحد منهم إختار بقعة تناسبه وتناسب قطيعه لكنهم ظلوا متجاورين إلا ثجيل فقد إنفرد لوحده كالعادة في مكان منعزل في أطراف الغابة وكان ذلك غير مستغرب من أحد. في كل مكان نذهب إليه يفعل ذلك.



نظر يوسف نحو السماء عبر يديه المعروقتين: كانت صحوا مشرقا والهواء ناعم وعذب وفي الأفق شمس مشرقة. راح يقطع الأخشاب بفأسه بقوة تترك رنينا حادا في أطراف الغابة ولم يكن ذلك هو الرنين الوحيد الذي أخذ يتردد. إرتفع صوت القطعان من أماكن متفرقة. هذه الأصوات الضاجة كانت تجعل المعدان يشعرون بفرح خفي لأنهم تعودوا عليها في الأماكن الكثيرة التي ارتحلوا إليها في حياتهم الشاقة كما سمعتهم يقولون ورايت بعضها بنفسي.



كانت دقات فأس ثجيل تأتي بعيدة، ناحلة، من طرفها الأقصى. هناك سيقيم بيته المنعزل الذي سيكون لغزا. خفت أول الأمر من المشي وحدي في الغابة. بدت الأشياء كلها غريبة ومثيرة ولا أستطيع تفسيرها لكنني تجرأت وخطوت خطوات قصيرة هنا أو هناك ووجدت نفسي بعيدا عن الأصوات. وجدت نفسي لوحدي. يا إلهي. هذه هي الغابة. هذه هي الحكايات والألغاز. هنا الأسرار. وأنا وحدي تحت كثافة الأشجار العملاقة التي تحجب السماء وتعزلني عن العالم وعن يوسف خاصة.



فكرت بالعودة. لكني فقدت الدرب. الدروب غير واضحة هنا. بل لاتوجد، وخطواتي هي أول الخطوات في هذا المكان. آثار أقدامي بدت كأثر قديم لإنسان أو حيوان.إذن تهت في الغابة. رحت أردد مع نفسي وقلبي يضرب بعنف وخوف. تهت في الغابة .

***

 

التوقيع

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ,,, عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
،،

نور الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس