لا زلت بعد رحيلها اراها تغفو قرب سريري ، تُلصق اذنها بالمذياع خافت الصوت تستمع الى الاغاني القديمة وتهدهدني بها وانا في ترنمها اقع في الوسن الخفيف كأنما تحملني غيمة محبة مليئة في حضنها ، ادعي انني نمت حين تهمس بإسمي المدلل من شفتيها المنحوتتين بعناية ، استقبل رائحة المسك والورد في شعرها حين ترنو لي وتقبل راسي وتخرج على اطراف اصابعها
أراها بين جاراتها وصديقتها ، السيدة المحبوبة الكريمة ، واتذكر كيف كان اخوتي يثورون حين يعودون بعد المدرسة ويجدونها قد وهبت غذائنا لعابرٍ طرق بابنا ، وكيف كان والدي يصبرهم ويبتسم لها قائلاً لم لا تضاعفي الكمية فإن لم تجد لها آكل تعشينا بالباقي وتهمس ان شاء الله ولا تفعل الا ما تريده
ودائماً منذ تعرفت عليها ليس كأم فهي والدتي ، بل تعرفت عليها وانا اكبر ، استمعت لها وهي تهاتف اخواتها او تتحدث الى والدي او الينا او تشاهد التلفاز ، راقبتها كثيراً حتى التفت لي والدي ذات مساء وقال لي ستشبهين والدتك وتعكسين صورتها من كثرة تحديقك فيها، ليس لأنها جميلة الوجه وحسب ولا لانها أمي بل كنت اراقب فيها الإنسان في ذلك الوقت الذي كان فيه من البداهة في عرفنا ان تكون المرأة تابعة لزوجها وان تتبنى كل ما يراه وتتوافق معه ، كانت في رفق شديد وبلا طلب تدير دفة مركبنا وبهيبة العارف تعتني بنا وتفهمنا بلا حديث
وكنا اذا تحدثنا لغة اجنبية المفترض ان لا تعرفها كي نخفي عليها امراً ما ، تلمح ما نخفي وتعرفه وتبتسم لنا وتقول لنا ماذا نحيك لها وعن اي شيء نتحدث ، كيف لقلبها هذا ان يحتمل كل هذا الزخم حولها وكيف تعاملت معنا كل لوحده وبطريقة يقبلها وكل منا يتذكرها من زاويته بشكل مختلف لانها تناولت معه ذات الموضوع بما يتناسب وتفكيره كما تعرف الأم طفلها وتفهمه فهمتنا ومنحتنا القوة لنكون نحن بلا حاجة لان نتغير او نضيع في المجموع
الحكمة التي امتلكتها عصية على فهم شخص كما انا ، الفهم العميق لما حول والحضن الكبير الذي يجمع كل الاضداد فينا عجيب، لا اذكر انها نهرتنا في يوم او غيرت نهجنا لم يعنيها التيارات الخارجية ولم تسمح لاخوتنا بفرض ارادتهم علينا ولم تسأل احدنا لم رفضت هذا الزواج او لم غيرت الوظيفة ولا تدخلت في تخصصاتنا مثل السيدات حولنا ، كانت طير حر يرى العالم بصورة اشمل لانه هناك في الشاهق يحلق وينظر ببصيرته لا ببصره
ان كنت املك اي شيء حقيقي في جوهره فلا بد انها من منحني اياه ولا بد انني محظوظة اذ عشت في حضنها حتى رحلت في سلام مطمئنة وراضية ، وان كتبت لها او عنها كل الحياة لن اجيد لأنها الإنسان /جوهر الحياة ، هي امي.
الحديث الثامن للسيدة المختلة حين زارتها لحظة عاقلة عن والدتها