منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (http://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد القصة والرواية (http://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=33)
-   -   حتى الخارصين يقود لصعرا (http://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=38416)

سالم الجابري 08-20-2017 05:15 PM

حتى الخارصين يقود لصعرا
 
حتّى الخارصين يقود لصعرا.

أهلاً بكم.
الخارصين هو فلز الزنك، وصعرا هي واحة صغيرة على طرف الربع الخالي في جزيرة العرب. وإن اختلست السمع لأهل هذه الواحة التي لا تظهر على الخارطة وهم يفخرون بواحتهم لخلت أنهم يتكلّمون عن نيويورك أو لندن أو باريس. ومما لا شكّ فيه أن طرق القوافل القديمة في جنوب شرق جزيرة العرب كانت كلّها تمر على صعرا، ولهذا يقول أهلها "وجوه الركاب تقود لصعرا"، أمّا أنا فقد قادني الخارصين ومن بعده الهوى لصعرا.
من يعرفني بشخصي بالتأكيد سيصاب بالدهشة وهو يقرأ هذا الكتاب ولن ألومه إن أحسّ ببعض الخديعة، ولمن لا يعرفني أكتب هذه المقدّمة البسيطة عن نفسي.
اسمي علي جان وأنا من القوميّة البلوشيّة. درست علوم الأرض وهندسة المياه في جامعة بلوشستان الهندسية في خوزدار وتخرجت منها في عام 1984. أبي كان شيخ طريقة صوفية، ولذلك أصرّ علي بعد تخرجي أن أتفرغ لدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية. خلال سنتين ونصف كنت قد تمكّنت من تجويد القرآن ودرست النحو والحديث والتفسير وأصبحت أتحدّث العربية الفصحى بطلاقة شديدة، وذلك ليس بغريب فعموم البلوش يتعلّمون العربية بسرعة ملفتة.
وفق أعراف مجتمعنا المحلّي وأعراف العائلة فلم يكن لي من أمري أي شيء. كل الأمر كان بيد أبي الذي بدأ بالاتصال بأصدقائه ومريديه ليتدبّر أمر الوظيفة. ولم تكن الوظيفة بالنسبة لي ضرورة للعيش بسبب الحالة الميسورة للأسرة، بل لإضفاء صفة الرجولة والوقار كما يقول أبي. أفضل خيارات الوظيفة الممكنة كانت في شركة بلوشستان للغاز، أو في شركة مناجم الفحم التي يملك أبي حصّة فيها، أو في وزارة الريّ الحكوميّة. وأخيراً قرّر أبي أن شركة الفحم هي الأفضل.
بالطبع ذهبت للشركة يرافقني ظل أبي، وأما المهندس علي جان الذي بداخلي فلم يكن له وزن. ومع عبارات الترحيب والاحترام التي كانت تنهال علي من كل حدب وصوب كنت أزداد غباءً وتقزماً ويزداد ظل أبي طولاً. لكن ماذا عساي أن أفعل؟! تقبّلت الأمر، وتقبّلت أيضاً مسمّى كبير مهندسي قسم تقييم المخاطر، وهو قسم ليس له وجود في الواقع بل مجرّد لوحة كتبت على عجل وبخط رديئ ووضعت على باب المكتب الذي ساقوني له. وحين عدت للبيت وسألني أبي عن الوظيفة التي اعطوني إياها، أجبته وعيناي منكسرتان نحو خرزات المسبحة الفيروزية التي يقلبها بين يديه
- لقد عيّنوني كبير مهندسي قسم تقييم المخاطر يا أبي.
- ولماذا لم تقل لهم أنّك يجب أن تكون رئيس القسم!! هل تظنّ أنّى سأبقى للأبد أدبّر لك كل شيء؟! أنت درست في الجامعة ويجب أن تكون رئيس القسم........هل تسمعني؟
-نعم يا أبي أسمعك.
-لا تذهب للوظيفة غداً حتّى أكلّم مدير الشركة.

سيرين 08-20-2017 06:15 PM

حياك الله في ابعادك كاتبنا الالق
وكم من يعيشون في جلباب ابيهم وإن ندرت الآن لصعوبة الحياة
إلا انها مازالت قصصها تطفو وإن تناسينا معلنة أنهم " خير مؤتمن "
سرد قصصي رائع به من الوفاء والعمق
فليرتقب الامل خلف بوابة الصمت
مودتي والياسمين

\..:icon20:

سالم الجابري 08-21-2017 12:31 PM


بالفعل أعطوني رئاسة القسم، ووضعوا لوحة جديدة على المكتب وبخطّ أجود هذه المرّة، وحين عدت للبيت وأكدت لأبي أن المطلوب قد تمّ لم يقل شيئاً بل أغمض عينيه واستغرق في شيء ما يشبه التسابيح.
سأتجاوز أحداث سنة كاملة، وإن شئتم الصدق لا شيء يستحق الذكر في تلك السنة؟! ضاعت أيامها من عمري وأنا أرتدي ملابسي الفخمة كل صباح وأنتظر وصول الإفطار في الساعة العاشرة وأستمع لنفاق وضيع من صغار المستخدمين حتى موعد الانصراف.

لكن يبدو أنّه بعد السنة قد حان موعد الخارصين. ذات صباح بارد، وكنت للتو قد جلست على الكرسي ومازالت برودة مساند اليد المعدنية تنفذ لي من خلال الثياب سمعت طرقاً خفيفاً على الباب. في العادة المستخدم اللطيف الذي يحضر الشاي صباحاً هو عبدالسلام أو كما يناديه الجميع "سلاموك"، وسلاموك يعلمني عن وصوله لباب المكتب بترديد البسملة والصلاة على النبي بصوت يبدأ بنبرة عالية ثمّ ينتهي بهمس لطيف يشابه بداية شواربه الغليظة ونهاياتها الرقيقة الذائبة في لحيته.

انتظرت لثوان قليلة. عاد الطرق مرّة أخرى وقد زادت شدّته قليلاً عن مستوى الخجل. بحثت عن أيّ شيء أضعه أمامي على المكتب لأبدو كموظّف فلم أجد سوى قلم. رفعت بصري للباب وقلت "تفضّل". انفرج الباب بهدوء على نغمة صرير ناعمة، وتسلّلت أشعة الشمس التي بالكاد ارتفعت عن حدود المبنى المقابل، وحين اكتمل انفراج الباب كانت تقف أمامي شمس أخرى من لحم ودم، ولست أعي الآن أكانت حينها من الرقّة بحيث ينفذ ضياء الشمس منها أم أن دمها ولحمها خلق من ألماس سائل ومعجون بالذهب فكانت تتشرّب الضياء وتنشره.

سالم الجابري 08-21-2017 12:43 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سيرين (المشاركة 1021102)
حياك الله في ابعادك كاتبنا الالق
وكم من يعيشون في جلباب ابيهم وإن ندرت الآن لصعوبة الحياة
إلا انها مازالت قصصها تطفو وإن تناسينا معلنة أنهم " خير مؤتمن "
سرد قصصي رائع به من الوفاء والعمق
فليرتقب الامل خلف بوابة الصمت
مودتي والياسمين

\..:icon20:

أستاذتي سيرين
شرف كبير لي وجودكِ هنا

شكرا لكِ

د. فريد ابراهيم 08-21-2017 01:02 PM

اسلوبك في السرد جذاب جدا .. و يرسم المشاهد بـ دقة
متابع بـ شغف
تحياتي و كل الود

رشا عرابي 08-21-2017 06:07 PM

أن تقدّم نفسك في مكان ما وعلى هذه الهيئة السخية تلك ثقةٌ
بالنفس وبالمكان وآله
ثم ،
أن تجدل التقديم من ضوء الضّاد بهذه اللغة الوارفة
فتلك بصمة تجعلنا لك نحتفي ونغتبط

أدهشتني كبرياء الحرف في محبرتك مع الإحتفاظ بالعفوية

حيّاك بيننا معنا يا سالم

سالم الجابري 08-22-2017 09:58 AM

لم تتأخر في الوقوف رغم أنّي لفرط خجلي منها كانت كلمة "تفضّلي" ترتجف على شفتي. خطت نحوي خطوتين فكانت في منتصف المسافة بيني وبين الباب. ألقت السلام وهي ترفع شالها المنسدل على صدرها ليحيط بعنقها. استجمعت شتاتي أمامها ووقفت أردّ السلام. شابكت يديها المنسدلتين أمامها وقالت

-آسفة على تطفلي عليك.
-أبداً....أنا سعيد أن يدخل عليّ أحد، تفضّلي بالجلوس.
-أنا مليكة عبدالسلام، لقد تخرّجت من الجامعة كمهندسة كيميائية وحالياً أتدرّب في مختبر الشركة. وأعتبر نفسي محظوظة للحصول على مثل هذه الفرصة.
-رائع. أنا علي جان، تخرّجت قبل أربع سنوات كمهندس مياه والتحقت بالشركة قبل ما يقرب من السنة.
-لا داعي لأن تعرّف بنفسك. الكل هنا يعرفك، فأنت ابن مولانا جان محمد. في الحقيقة جئت أبحث عن شيء ظننت أنّه ربّما يكون متوفراً في قسمكم.
-كل القسم لكِ....اطلبي ما شئتِ.
-أريد بعض الخارصين للمختبر. لا شكّ أنّكم تستخدمونه لحماية دعامات المنجم من الاشتعال. كمّية بسيطة فقط ريثما يوفر قسم المشتريات متطلبات المختبر.
-كما تريدين. سيصلك الخارصين للمختبر. والآن تفضّلي بشرب كوب شاي يعينك على هذا الصباح البارد.
-سامحني....لابد أن أوقّع في دفتر الحضور في المختبر وإلا لن أحصل على شهادة التدريب.

ومضت مليكة. وحملتني متعلّقاً بأطراف شعرها المتسلّل من تحت شالها بين كتفيها. انتبهت لنفسي ويدي ترتجف، وصدري به شيء مختلف عمّا عهدته. ما أجمل تلك اللحظة التي دخلت فيها عليّ. لابدّ أنّ جدّ البشر مرّ بلحظة كهذه. دفقة لا متناهية من الجمال حوّلت الجزء المعلّق في صدره إلى قلب، وأخرجت الصدى المحتبس بين حناياه فكان لحناً عذباً على شفتيه، ومن المؤكد أنّ أوّل أصوات خرجت من بين شفتيه كانت تصويتات الدهشة، والشوق، والحنين......ثمّ جمعها وصنع منها شعراً يردّده ليخلّد تلك اللحظة ويعيد تذوقها، فيعود له شيء من إحساس جمال اللحظة الأولى.

ثم انتبهت لشيء آخر. أنّي لم أكن أعرف ما هو الخارصين، ومع ذلك لم يكن عندي أي شكّ أنّي سآتي به ولو كان في آخر الدنيا. وأنا ما زلت واقف في حيرتي دخل عليّ سلاموك. وضع لي الشاي على الطاولة وهو يبدي استغرابه من شرودي. ولأستعيد توازني أمامه، ومن دون أن أرجو إجابة منه قلت

-أفكّر في الخارصين. هل تعرف أين أجده؟.
-نعم أعرف، إنه يباع في أماكن كثيرة. حتى في محلات الأسمدة.
-ماذا؟!
- الآن يسمّونه زنك. هل تريد أن أحضر لك خارصين؟.

سالم الجابري 08-22-2017 09:59 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د/ فريد ابراهيم (المشاركة 1021199)
اسلوبك في السرد جذاب جدا .. و يرسم المشاهد بـ دقة
متابع بـ شغف
تحياتي و كل الود

جزيت الجنة شاعرنا

بارك الله فيك


الساعة الآن 08:45 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.